“ما أكبر الفكرة، وما أصغر الدولة”، يقول محمود دوريش مشيراً لهذه العلاقة الإشكالية التي كانت منذ البدء من صميم التاريخ الإنساني وفي خضم الصراع الأبدي بين حرية الفكر واستبداد السلطة، خصوصاً السلطة التي تتلطّى بالدين لتستمدّ منه الشرعية التي لم تنلْها من المحكومين.
قد تكون عبارة الحلّاج: “ركعتان في العشق لا يصح وضؤوهما إلا بالدم”، أيقونةً لهؤلاء الذين صدقوا مع أنفسهم وانسجموا مع أفكارهم وفضّلوا الذهاب إلى مصائرهم ببسالة، بدءاً من سقراط الذي تجرّع السُّم حتى آخر مفكرٍ حُرٍّ عُلِّق على أعواد المشنقة أو مثقفٍ شَحّ الأوكسجين في زنزانته.
جاء الأستاذ محمود محمد طه من أقاصي الغربة – التي وصفها السهروردي القتيل بـ “الغربة الغريبة” – مُجاهِداً نفسه ومُعْمِلاً عقله، ومتمرداً على فقه النقل والقطعنة واعتبار السائد سيِّداً، ورافضاً الخضوع للترهيب سواء أتى من سلطة سياسية أو غوغاء اجتماعية.

وقف الأستاذ محمود محمد طه معارضاً قوانين سبتمبر وهو يعلم أنه “ما في الموتِ شكٌّ لواقفٍ” .. أصدر منشوره الشهير منتقداً تلك القوانين، فوضع نفسه في “جفن الردى” وهو يعلم أن الردى “غير نائم” .. ولكن ما كان لمثله أن يتراجع عمّا يراهُ حقّاً وصواباً.

في اليوم الثامن عشر من شهر يناير عام ١٩٨٥، لَوّحَ الأستاذ محمود بابتسامته الوضيئة وزلزل بثباته أعواد المشنقة .. اختار أن يواجه مصيره ببسالةٍ قلّ نظيرها في التاريخ الإنساني، رافضاً التراجع عن فكرته أو الإعتذار عن وعيه .. مضى لسبيله متحدياً هَوَس السلطة ولوثة عقلها، واستقرّ في ذاكرة الوطن وأفئدة الأحرار مصدرَ إلهامٍ في مقاومة الظلم والطغيان.

التعليقات