منذ انتصارها المبهر في 30 يونيو/حزيران 2019 والثورة السودانية تواجه الفخاخ المنصوبة لزرع الفتنة بين قوها وبين مكونات قيادات الفترة الإنتقالية، تمهيدا لتفجير الثورة من داخلها والإنقضاض عليها. واليوم، تعدى الخطر على الثورة مرحلة الكمون إلى مرحلة الهجوم، مستفيدا من حالة التشظي والإنقسام وسط قوى الثورة، المدنية منها والمسلحة، وما نشهده من تراشق وخلافات بينها وصلت حد التشكيك والتخوين، لم يكبحها أو يمنعها الوضع المعقد لمسار الثورة والذي يتطلب تكاتف وتوحد الجميع أكثر من أي وقت آخر، ولم تعدها إلى رشدها نداءات أرواح الشهداء أن نحافظ على ما نصرته وروته بدمائها وأرواحها، وأن الخائن الحقيقي، هو من لا يأبه لهذا الوضع المعقد لمسار الثورة، ولا للمنعطف الخطير الذي تمر به البلاد، ويصم أذنيه عن نداءات الشهداء، وهو لا يدري، أو يدري ولا يهتم، أنه بهذا المسلك يفتح أوسع الأبواب لأعداء الثورة.
وكما رددنا كثيرا، ولن نمل التكرار، صحيح ظلت النخب السودانية منذ فجر الاستقلال، ولأسباب سياسية واجتماعية وتاريخية وجهوية، تتخاصم وتتصارع حقبا طويلة، لكن، آن الآن أوان أن ترتقي إلى مستوى ومصاف وروح ثورة ديسمبر/كانون الأول العظيمة، وأن تقتنع بأن خطرا داهما يتهددها جميعا ويجعل الوطن كله في مهب الريح، وأن ما يجمعها، في الحد الأدنى الضروري للحياة، أقوى مما يفرقها، وأنه آن الأوان لكيما تلتقي بجدية واخلاص لصياغة واقع جديد في السودان، فتحت أبوابه ثورتنا المجيدة، واقع يحقق أحلامنا جميعا في كسر الحلقة الشريرة واستدامة الحرية والديمقراطية والسلام والعدالة، إنصافا لشعبنا الذي ظل صابرا لعقود من الزمن ولم يحصد سوى الريح.
وأعتقد أن نخبنا السياسية، مدنية أو مسلحة، لن تفوتها، أو هكذا آمل، حقيقة أن الذي إنطلق في ديسمبر/كانون الأول 2018، هو ثورة كاملة الدسم، بكل ما يحمل هذا التعبير من معان. ثورة حظيت بإجماع شعبي، ربما الأول من نوعه في تاريخ السودان المستقل، وليس واردا أن تُحسب لهذه الجهة أو تلك، ثورة يمكن أن تتعدد مراحلها، وتعترضها صعاب وعرة وإنتكاسات مؤقتة، ولكنها ستواصل سيرها إلى الأمام، ثورة فجرها شباب السودان بكل طوائفهم ومدارسهم وتياراتهم، بعضهم يلامس السياسة بشكل مباشر أو غير مباشر ولكن الأغلبية لم تقترب منها، تنادوا من كل فج عميق مطالبين بالتغيير لأجل تحقيق ذات الهدف في الحرية والسلام والعدالة والعيش والكرامة. هولاء الشباب، بزحفهم المقدس في شوارع السودان، وبهتافهم الموحد المليء بالقيم الإنسانية الخالدة، تخطوا وصفات الثنائيات الكلاسيكية، من نوع يمين ويسار، أو رجعي وتقدمي، أو علماني وديني، وغيرها، ليؤكدوا تمددهم ليضم كل الشرائح السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية وحركة المجموعات الإثنية والقومية…الخ، وليحافظوا على جذوة الثورة متقدة، وعلى تجلياتها في وعيهم الثوري وصمودهم وثقتهم في نفسهم، وإستعدادهم لإشعال الشوارع مواكبا وهتافا وحماية للثورة بالروح والدم، ولإلحاق شر هزيمة بأي تطاول مضاد أو مخططات إنقلابية تتربص بالثورة، وتسعى لإختطاف الأمل وقتله. فشباب السودان فعلا يمهل، ولكنه لا يهمل ولا تتمكن منه اللامبالاة.
إن الهدف الأساسي والعنوان الرئيس لثورة السودان هو كسر الحلقة الشريرة وإيقاف دورانها ما بين الإنقلابات العسكرية التي تطيح بديمقراطيات هشة ضعيفة، وإنتفاضات تطيح بنظم تلك الإنقلابات التي كانت تتوهم القوة والمنعة والاستدامة، وهي أبعد من ذلك تماما، وأقرب إلى مراكمة البؤس والأزمات. ومن هنا يأتي الحديث عن أهمية الفترة الإنتقالية لكسر الحلقة الشريرة، وفق برامج وآليات من بينها المفوضيات، وخاصة مفوضية صناعة الدستور والمؤتمر الدستوري ومفوضية الانتخابات. وفي هذا السياق، ومواصلة لحديثنا عن مفوضية الانتخابات بحثا عن أي الصيغ الديمقراطية والنظم الانتخابية الأكثر ملاءمة لواقع بلادنا، نقرأ في كتاب التاريخ أن إنتصار الثورة البرجوازية، ومن ثم إنطلاقة الثورة الصناعية في غرب العالم، كلل بالنجاح مسيرة البشرية التي ظلت تعاني أشد المعانات منذ العصور المظلمة، عصور العبودية والاقطاع وسيطرة الكهنوت، ولمئات السنين، حتى توصلت إلى ترسيخ مفاهيم الليبرالية وإكساب الديمقراطية جوهرها ومضمونها، كقيمه مطلقة وعالمية. ونضيف هنا، أن الممارسة الديمقراطية بصيغتها الليبرالية، ترتكز على مبدأ التنافس الحر في ظل وعي متقدم بالحقوق والواجبات، وفي أجواء مشبعة بالشفافية ومسلطة عليها عين الرقابة والمساءلة والمحاسبة وحكم القانون.
هذه المبادئ والأجواء وفرها إنتصار الثورة البرجوازية في الغرب، عندما حسمت، إلى حد كبير، كوابح ومخلفات ما قبل الثورة البرجوازية، بما في ذلك قضايا التوتر والتنازع العرقي والطائفي وعلاقة الدين بالسياسة، مثلما حسمت قضايا الهوية وبناء الدولة القومية، ثم استعانت بسيطرة آلة نفوذها الاقتصادي لتنعم هي بالسيطرة السياسية في ظل ممارسة ديمقراطية، يقدمها منظروها على أنها القمة، أو «نهاية التاريخ». نحن نقر بأن الديمقراطية وفق الصيغة الليبرالية هي النموذج المبهر حتى الآن، لكننا لا نوافق على أنها القمة والشكل الأرقى للممارسة السياسية، أو أنها نهاية التاريخ. فمع التطورات الحادثة في النظام الرأسمالي، ووفق ما نشهده اليوم من تصدعات وشقوق في بنية الممارسة السياسية في البلدان الغربية، ظهرت محدودية وتشوهات النموذج الليبرالي للممارسة الديمقراطية، إذ ليس كافيا إن تقتصر الديمقراطية عند حدود السماح للجماهير بالتعبير عن رأيها فقط دون المشاركة الفعلية في إتخاذ القرار، غزو العراق نموذجا!. لكن، ورغم هذه التشوهات والمحدودية، فإن الديمقراطية الليبرالية لم تستنفد أغراضها بعد، وليس المطلوب من أي شكل جديد أن ينسخها ويلغيها، وإنما ينفيها جدليا. بمعنى الإحتفاظ بتلك المبادئ والقيم التي أرستها الليبرالية ورسختها في شكل حقوق وحريات وسيادة حكم القانون والفصل بين السلطات والتداول السلمي للسلطة…الخ، وفي نفس الوقت نفي زيف الممارسة، مثلما هو الحال في بلداننا، ونفي قصورها عن ترجمة طموحات الناس إلى واقع حقيقي. ونواصل البحث عن ملامح هذا الشكل الجديد.
التعليقات