ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، أن تضجّ أجواء البلاد بأخبار محاولة انقلابية كان الناس يتحدثون عنها قبل حدوثها بفترة. والملاحظ وجود أحداث متشابهة لازمت هذه المحاولات. ففي العام الماضي، ومع بدايات استعدادات البلاد للحظر الصحي بسبب جائحة الكورونا، جاء في الصحف أن «مصدرا في الاستخبارات العسكرية، كشف عن تخطيط لانقلاب عسكري بقيادة إسلاميين في الجيش وبعلم عدد من العسكريين في مجلس السيادة!».
ثم اكتملت تلك الدراما بحدثين آخرين، الأول مظاهرات أنصار النظام البائد أمام ميدان القيادة العامة مطالبين الجيش بالتدخل وإسقاط الحكومة المدنية، والثاني، ما ورد في تقرير صادر عن مركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، يقول إن تحالف قوى الحرية والتغيير يخطط، بالتنسيق مع ميليشيات عسكرية، للإطاحة بالشق العسكري في الحكومة الانتقالية!، وأن التحالف سيستثمر تواجد بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان (يونيتامس) لتفكيك المؤسسات العسكرية السودانية وبناء أخرى جديدة!.
أما بالنسبة لمحاولة الإنقلاب الأخيرة، فجاءت أخبارها قبل فترة في الصفحة الرسمية لإعلامية معروفة عندما كتبت أن مصدرا موثوقا أكد للصفحة توافر معلومات مؤكدة للجيش السوداني عن محاولة انقلابية وشيكة خطط لها ضباط نظاميين بقيادة أحد أحزاب المكون المدني!
وأيضا تكاملت الدراما مرة أخرى بإرتفاع وتيرة الانفلاتات الأمنية في العاصمة والأقاليم، وبازدياد وتيرة النزاعات القبلية، وبمحاولات إستغلال التحركات والاحتجاجات المطلبية المشروعة، وخاصة في شرق البلاد، والسعي لإلباسها ثوب المناداة بالانقلاب العسكري، وكأن كل ذلك يتم وفق مخطط مرسوم بعناية. من جانبنا لن نتوه في أي تحليلات حول ما حدث وهل هو فعلا انقلاب حقيقي أم فبركة أم بروفة أو مجرد إختبار وجس لنبض الشارع، أم إحتجاج داخل الجيش…الخ، وبدلا عن ذلك، وبغض النظر عن طبيعة المحاولة أو تصنيفنا لها أو نوايا من قاموا بها، نرى التعامل معها بإعتبارها شروعا حقيقيا في انقلاب عسكري. وفي نظري، هذا التعامل يبتدئ بإقرار حقيقتين، الأولى أن هدف أي محاولة انقلاب ليس ضرب الحكومة المدنية الانتقالية أو تذمرا من ضعفها، وإنما لضرب وإجهاض ثورة ديسمبر/كانون الأول.
والحقيقة الثانية، أن البعض داخل القوات المسلحة لا يؤمن بالثورة وبالتحول المدني الديمقراطي، وإلا ما كان أقدم على الانقلاب، وهذه مدعاة لمراجعة الأوضاع داخل هذه المؤسسة وإصلاحها. وأعتقد أن تكرار المحاولات الانقلابية، وحتى لو كانت إحتجاجا وتنبيها، كما قيل، هي حجة داحضة للرافضين لفكرة إصلاح القطاع العسكري. صحيح أن الإصلاح ليس مقصورا على القطاع العسكري فقط، وإنما يشمل مجالات أخرى مدنية متعلق بالوضع السياسي في البلد وأداء العديد من الوزارات ذات الصلة، والتوافق على العقيدة العسكرية المؤمنة بالتحول الديمقراطي والتبادل السلمي للسلطة، والعلاقة بين المدنيين والعسكريين…الخ، وهذا موضوع كبير جدا ولا يتم نقاشه في الصحف او الإعلام وإنما عبر حوار جاد تسوده روح الوئام والتحالف وليس التشاكس وإدعاءات التخوين. أما الأولوية الآن، فهي إستكمال تطهير أجهزة الدولة النظامية والمدنية من البؤر المادية للثورة والتحول الديمقراطي.
منذ إنتصارها المبهر في 30 يونيو/حزيران 2019، وثورة السودان تواجه خطر زرع الفتنة بين قوها وبين مكونات قيادات الفترة الانتقالية، تمهيدا لتفجيرها من داخلها والإنقضاض عليها. واليوم، هذا الخطر تعدى مرحلة الكمون وإنتقل إلى الهجوم المباشر، مستفيدا من عدة عوامل، منها أن ما أنجزته الثورة حتى الآن بالنسبة لتصفية نظام الإنقاذ هو إزاحة غطاءه السياسي، بينما بنيانه الذي بناه في ثلاثين عاما لا يزال موجودا متماسكا ومسيطرا على كل مفاصل الدولة، مستخدما كل مهاراته المكتسبة في الحفاظ على بؤر الفساد، وفي التلاعب بقرارات الحكومة الانتقالية، وفي تهيئة الأجواء الملائمة للإنقضاض وعودة غطاء سياسي جديد وربما بوجوه جديدة. صحيح، من الصعب أن يتمكن هذا الجسد المتخثر من إسترداد السلطة، لكنه إذا لم يُلجم، سيواصل زعزعة وإرباك الوضع وتهديده، وأبدا لن يهمه أن تدخل البلاد في نزاع دموي شرس، أو تتمزق.
فسدنة الانقاذ لن يبتلعوا ضياع ما نهبوه من ثروات ضخمة وهم في الحكم. وبما أن هذه الثروات لم تُمس حتى اللحظة، ويجري استخدامها في التحضير الجدي للانقضاض على الثورة، وبما أن الجرائم البشعة التي أرتكبتها الإنقاذ لاتزال دون مساءلة أو عقاب، وفي ظل وجود مجموعات في مواقع متنفذة تدين بالولاء للنظام البائد، وتسعى سعيا محموما للإنتقام من الشعب ومن ثورته، سنكون مجرد ساسة غافلين إذا لم ننتبه إلى أن جسد الانقاذ يسعى لخلق غطاء سياسي جديد ينقض به على الثورة، وسيكرر المحاولة تلو المحاولة. عامل ثاني هو الأداء الضعيف للحكومة الانتقالية في تنفيذ مهام الإنتقال، حتى وصفها الناس بالفاشلة، وبدا وكأنهم سينفضون من حولها، هي وحاضنتها السياسية.
عامل ثالث هو حالة التشظي والانقسام وسط قوى الثورة، المدنية منها والمسلحة، وما نشهده من تراشق وخلافات بينها وصلت حد التشكيك والتخوين، لم يكبحها أو يمنعها الوضع المعقد لمسار الثورة والذي يتطلب تكاتف وتوحد الجميع أكثر من أي وقت آخر، ولم تعدها إلى رشدها نداءات أرواح الشهداء أن نحافظ على ما نصرته وروته بدمائها وأرواحها. قناعتي، أن الخائن الحقيقي في هذا البلد، هو من لا يأبه لهذا الوضع المعقد لمسار الثورة، ولا للمنعطف الخطير الذي تمر به البلاد، ويصم أذنيه عن نداءات الشهداء، مقدما المصلحة الضيقة على مصلحة الوطن، وهو بهذا المسلك يفتح أوسع الأبواب لأعداء الثورة.
والغريب في الأمر، ومثير للريبة في آن، أن قيادات الفترة الانتقالية لم تعد تتحدث عن محاولة الانقلاب الفاشلة وكأنها مجرد حدث عارض، وأنبرت تشتم وتخون بعضها البعض وتشحن الأجواء، في مسلك لا علاقة له بالحكمة ولا بالمسؤولية ولا بمعاني القيادة!!، ولم ينته بعد حديثنا عن المحاولة الانقلابية الفاشلة.

التعليقات