المسار الأول في جنيف، حيث توصل وفد الأمم المتحدة برئاسة المبعوث الخاص للأمين العام، رمضان لعمامره لاتفاق مع وفد قيادي من قوات الدعم السريع بشأن إيصال المساعدات الإنسانية الي المتضررين من الحرب في السودان وتعزيز حماية المدنيين.
ويشمل الاتفاق إقامة مراكز في كل من دارفور وكردفان، والخرطوم والجزيرة، على أن تلتزم قوات الدعم السريع بحماية القوافل والعاملين في مجال المساعدات الإنسانية. كما يشمل الاتفاق فتح المعابر الحدودية لمرور المساعدات الإنسانية من تشاد عبر معبر أدرى، ومن جنوب السودان عبر معبر أم دخن وفور برنقا وأويل، إلى جانب العمل على تأسيس مركز للأمم المتحدة في زالنجي لتوزيع المساعدات بالتعاون مع الوكالة السودانية للإغاثة والعمليات الإنسانية، التابعة لـقوات الدعم السريع. وحتى لحظة كتابة هذا المقال، لا ندري نتائج المحادثات بين وفد الأمم المتحدة ووفد الحكومة السودانية، ونتمنى التوصل إلى اتفاق مماثل حتى يتم تأمين المساعدات الإنسانية للمتضررين ومواجهة خطر المجاعة والكارثة الصحية. محادثات جنيف تجري وفق منهج التفاوض غير المباشر مع طرفي الحرب في السودان، كل على حدة، عبر اقتراح آليات غير تقليدية تعتمد سيادة كل طرف في الأماكن المستهدفة. وهي آليات تعكس نوعا من أنواع التدخل الدولي الإنساني، والذي جرب من قبل في سوريا وأفغانستان وقبرص. وكنت في مقالي بتاريخ 24 يونيو/حزيران الماضي قد شددت على أن معالجة ملف الأزمة الإنسانية وضمان حماية المدنيين هو المدخل الصحيح، من وجهة نظري، لوقف الحرب في السودان، وأن هذا الملف لا يقبل التسييس ولا المساومة، وينبغي ألا تكون المساعدات الإنسانية رهينة لدى الأطراف المتحاربة تستخدمها ككروت ضغط وسلاح في معركتها.
وتقدمت في ذات المقال بعدد من المقترحات منها ضرورة أن تتفق الجهات الدولية والإقليمية المعنية على أساليب جديدة، خارج الصندوق، أكثر فعالية في تلبية احتياجات الناس، بما في ذلك ابتداع طرق جديدة للتسليم عبر الحدود، والتفتيش المشترك للمساعدات من قبل أطراف النزاع والداعمين الدوليين، ودعم أنشطة غرف الطوارئ، واستخدام التحويلات النقدية الإلكترونية، وغير ذلك من الطرائق. وتحديدا، اقترحت أن تعقد قيادات رفيعة المستوى وذات خبرة من المجتمع الدولي والإقليمي جلسات تفاوض مع قيادات عليا متنفذة في القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، كل على حدة والاتفاق بشكل ثنائي مع كل طرف بشأن خلق الممرات الآمنة وتوصيل المساعدات الإنسانية للسكان المدنيين، وذلك على أساس الاعتراف بحق كل طرف في السيطرة واشتراط موافقته على ممرات توصيل المساعدات. وقلت إن جوهر هذا الاقتراح يتمثل في التفاوض على أعلى مستوى؛ ولا يشترط اتفاق مشترك بين الطرفين المتحاربين؛ مع كفالة حق السيطرة؛ والأخذ في الاعتبار الدروس المستفادة من التجارب السابقة في توصيل المعونات الإنسانية.

المسار المشجع الثاني يتمثل في المحادثة الهاتفية بين الفريق البرهان والشيخ محمد بن زايد، وهي الأولى من نوعها منذ اندلاع الحرب، وتأتي في خضم الاتهامات الموجه من السودان إلى الإمارات بدعم قوات الدعم السريع، والتي وصلت حد تقديم السودان شكوى ضد الإمارات في مجلس الأمن. لن أخوض مع الخائضين في التكهن بتفاصيل ما دار في المحادثة، وأعتقد أن هذا ليس مهما في هذه المرحلة بقدر ما أن المهم هو فعل الاتصال الهاتفي نفسه. فليس من المتوقع أن تكون المحادثة الهاتفية قد تعمقت في التفاصيل أو اقتربت من التوافق على محطات رئيسية، ولكنها بالتأكيد، وبغض النظر عن محتواها، ترسل إشارات إيجابية ومشجعة، ولكن بالطبع ليست حاسمة، بالنسبة لقضية وقف الحرب في السودان. وفي ذات السياق تأتي زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد لبورتسودان.
المسار الثالث الذي يرسل إشارات مشجعة، يتمثل في حوارات القوى المدنية والسياسية السودانية في مؤتمر القاهرة وفي مؤتمر أديس أبابا، رغم سلبيات وقصور التحضير بالنسبة لمؤتمر أديس أبابا والتي أدت إلى مقاطعته من قبل قوى مدنية وسياسية مؤثرة، ورغم اعتراضات بعض القوى على البيان الختامي لمؤتمر القاهرة. فالتطورات الأخيرة في المؤتمرين، وما سبقهما من لقاءات مشتركة ضمت الأطراف والكتل المدنية والسياسية في العديد من الورش والسمنارات، تنبئ في إمكانية الاقتراب من انتظام هذه القوى في حوارات جادة للتوافق حول رؤية لإنهاء الحرب وإستعادة المسار المدني الديمقراطي.
تقريبا، كل لقاءات القوى المدنية والسياسية المشار إليها هنا، أكدت على المبادئ العامة حول وقف الحرب عبر التفاوض، وعلى أولوية مخاطبة الأزمة الإنسانية، وعلى الحفاظ على وحدة السودان، وعلى عملية سياسية تؤسس لفترة إنتقال تأسيسية، وفي مؤتمر القاهرة تم التوافق على لجنة للمتابعة والتحضير السياسي والذهني والتنظيمي للقاءات تالية مكملة. وبالنظر إلى الإشارتين الأولى والثانية أعلاه، وبإعتبار ما ظللنا نكرره كثيرا من أن الطرفين المتقاتلين قد يتفقان على وقف إطلاق النار والقتال، ولكن ليس باستطاعتهما وحدهما وقف الحرب أو تقرير مستقبل السودان، فإن حوارات القوى المدنية والسياسية السودانية تكتسب أهمية قصوى، ونحتاج أن نزيد من وتيرة تسارع عجلتها، لأن المسؤولية الأكبر والرئيسية في إنهاء الحرب تقع على عاتق هذه القوى، لأنها هي المناط بها تصميم وقيادة العملية السياسية التي بدونها لن تضع الحرب أوزارها.
وجوهر العملية السياسية يبدأ بصياغة الرؤية لوقف الحرب، والتي في قمة أولوياتها مخاطبة المأساة الإنسانية الراهنة والمتفاقمة في البلاد، بالإضافة إلى الإجابة على العديد من الأسئلة الجوهرية الأخرى كأسئلة مستقبل القيادات العسكرية ومستقبل الدعم السريع والمجموعات المسلحة الأخرى، وأسئلة العدالة والمساءلة والمحاسبة بالنسبة لجريمة اندلاع الحرب وما صاحبها وما سبقها من انتهاكات، وكذلك أسئلة إرساء ملامح فترة انتقال بقيادة مدنية تخاطب جذور الأزمة السودانية والأسباب الجوهرية لاندلاع الصراعات والحروب في البلاد، ومنها هذه الحرب المدمرة، وتعيد بناء الدولة السودانية وفق مشروع وطني متوافق عليه.

التعليقات