من الذكريات الحبيبة إلى نفسي أننا كنا نُقيم ليلة للتدارس بنادي الرمل بالجامعة، ونختار في كل خميس موضوعاً، وأذكر أننا اخترنا يوما موضوع بالغ الأهمية وقد وسمناهوا يومها (هذه هديتنا لمقررات الأدب بالمدارس الثانوية ) وقد اختار كل واحد من أصدقائنا نصا. وفي ورقة قديمة وجدت النص الذي اخترته وكان رثاء أبو الحسن الأنباري للوزير الصالح محمد بن بقية الذي أبى أن ينصاع لعز الدولة بتبرير الباطل من الأحكام فقضى بقتله بطريقة عجيبة وبشعة حيث داسته الفيلة وعلق جثمانه الطاهر على وجه حاضرة الدولة، وقد تقبل الفارس القتيل الحكم بصبر ورباطة جأش وتأبى على سؤال المذلة والتدني لعفو السلطان الزائف فكافأه الأنباري بهذه القصيدة التي سارت كما قال المتنبي بقوافٍ صعدن الجبال وخضن البحارا
فقد وقف الشاعر تحت الرجل المصلوب حين كان الشعر طليقا والمثقف حرا رغم الاستبداد وقال رائعته التائية الشهيرة:

عـلو فـي الحـيـاة وفي المماتِ
لحــق تــلك إحــدى المــعـجـزات

كـأن النـاس حـولك حـين قاموا
وفـــود نـــداك أيــام الصــلات

كــأنــك قـائم فـيـهـم خـطـيـبـاً
وكــــلهــــم قــــيـــام للصـــلاة

مـددت يـديـك نـحـوهـم احـتـفاءً
كــمــدهــمـا إليـهـم بـالهـبـات

ولمـا ضـاق بـطـن الأرض عن أن
يــضـم عـلاك مـن بـعـد الوفـاة

أصاروا الجو قبرك واستعاضوا
عـن الأكـفـان ثـوب السـافـيات

لعـظـمك في النفوس بقيت ترعى
بــــحــــراس وحـــفّـــاظ ثـــقـــات

وتـوقـد حـولك النـيـران ليـلاً
كــذلك كــنــت أيــام الحــيــاة

ركــبــت مــطـيـةً مـن قـبـل زيـدٌ
عـلاهـا فـي السـنين الماضيات

وتــلك قــضــيــة فــيــهــا تــأسٍ
تـبـاعـد عـنـك تـعـبـير العداة

ولم أر قـبـل جـذعـك قـط جـذعاً
تــمـكـن مـن عـنـاق المـكـرمـات

أسـأت إلى النـوائب فاستثارت
فـأنـت قـتـيـل ثـأر النـائبـات

وكـنـت تـجـير من صرف الليالي
فــصـار مـطـالبـاً لك بـالتـرات

وصــيّــر دهــرك الاحـسـان فـيـه
إليــنــا مـن عـظـيـم السـيـئات

وكــنــت لمــعـشـرٍ سـعـداً فـلمـا
مـضـيـت تـفـرقـوا بـالمـنـحـسات

غــليــل بــاطــن لك فـي فـؤادي
يــخــفــف الدمــوع الجــاريــات

ولو أنــي قــدرت عــلى قــيــام
بــفـرضـك والحـقـوق الواجـبـات

مـلأت الأرض مـن نظم القوافي
ونــحـت بـهـا خـلاف النـائحـات

ولكــنــي أصــبــر عــنـك نـفـسـي
مــخـافـة أن أعـد مـن الجـنـاة

ومــالك تــربـة فـأقـول تـسـقـى
لأنــك نــصــب هـطـل الهـاطـلات

عــليـك تـحـيـة الرحـمـن تـتـرى
بــــرحـــمـــات غـــواد رائحـــات

وأبلغ من القصيدة مقولة الخليفة القاتل عز الدولة حين سمعها أطلق نفثته “لقد تمنيت أن أكون أنا المصلوب وأن القصيدة قيلت فيّ”.

التعليقات