مواصلة لنقاشنا في المقالين السابقين، فإن المداخل الرئيسية لإصلاح السياسة الخارجية ومؤسساتها في السودان، تتضمن: أولا، السياسة الخارجية للسودان، وفي الحقيقة لأي بلد، تمثل امتدادًا وانعكاسًا لسياسته وأوضاعه الداخلية، ويتم رسمها تلبية للمتطلبات المحلية، وبالتالي فإن نقاط القوة أو الضعف في سياستنا الخارجية وفي نشاطنا الدبلوماسي هي نتاج نقاط القوة والضعف في واقعنا الداخلي، السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ثانيا، إدراكنا وتفهمنا وقبولنا لواقع أن العالم الخارجي، الدولي والإقليمي، في تفاعلاته وتدخلاته معنا يضع نصب عينيه أهدافه العامة ومصالحه الخاصة، وأننا لا نعترض على ذلك ما دامت هذه المصالح لا تتم على حساب مصالحنا الوطنية، وما دام هناك قيادات وطنية حصيفة تعرف كيف تضع حدا بين مصالحهم والتغول على مصالحنا، وكيف تتمترس في الدفاع عن مصالح الوطن، دون أي إنحناءة أمام هذه الهجمة أو تلك.
ثالثا، أن كيفية التعامل مع معادلة مصالحهم ومصالحنا، وكيفية تحديد أولويات تحرك السودان خارجيا، وتأثيرات هذا التحرك على البلد، تستند على وجود رؤية استراتيجية لسياسة البلد الخارجية وعلاقاته مع مختلف فواعل النظام الدولي. رابعا، هذه الرؤية الاستراتيجية ترسمها وتصوغها أجهزة الدولة المختصة، لكن ليس عبر النشاط البيروقراطي والدواويني المحض، وإنما من خلال التفاعلات السياسية والفكرية مع القوى السياسية، الداعمة للحكومة والمعارضة لها، وعلى مستوى القواعد مع الأحزاب والمؤسسات والمنظمات الجماهيرية والمدنية المختلفة، ويتم بلورتها في برنامج محكم التخطيط ومحدد الأهداف، بما يحقق مصالح البلاد وجماهير الشعب، وليس مصالح النخبة الحاكمة فقط، بعيدا عن سياسات الصفقات والمحاور، ووفقا للمبادئ المتوافق عليها دوليا. وفي هذا السياق، صحيح أن الدبلوماسية بطبيعة عملها قد لا تشارك في صنع السياسة الخارجية، إلا أنها تساهم بتقديم استشارات وتوصيات مهنية هامة لصانعي السياسات لاتخاذ الخيارات المناسبة، كما أنها تساهم في بناء مصدات لمهددات الأمن القومي.

خامسا، الابتعاد تماما عن سياسة المحاور وعن إقحام الآيديولوجية في رسم سياسة السودان الخارجية. فهاتان الآفتان، على عهد الإنقاذ، مارستا تخريبا غير مسبوق في سياسة وعلاقات السودان الخارجية لا تزال آثاره الضارة تسهم في إشتداد خناق الأزمة في البلاد. سادسا، تلعب السياسة الخارجية والدبلوماسية دورا قياديا لا يمكن الاستغناء عنه في عمليات التنمية الاقتصادية في البلاد، وذلك عبر تطبيع علاقات السودان مع الدول والمؤسسات الدولية المانحة للمساعدات، وعبر إدماج الاقتصاد السوداني في الاقتصاد الدولي في مجالات التجارة والاستثمار، وغير ذلك من التدابير التنموية والاقتصادية. سابعا، الدبلوماسية ليست وظيفة عادية وإنما هي مهنة حساسة جدا لها مواصفاتها ومتطلباتها الخاصة بها والتي يجب أن تتوفر في المتقدمين للإلتحاق بها، حتى يتسنى اختيار أجود العناصر التي ستمثل البلاد في الخارج ولا تمثّل بها، مثلما حدث من ممارسات مؤسفة ومخجلة لم نسمع بها من قبل إلا إبان عهد الإنقاذ.

السياسة الخارجية للسودان تمثل امتدادًا وانعكاسًا لسياسته وأوضاعه الداخلية، ويتم رسمها تلبية للمتطلبات المحلية، وبالتالي فإن نقاط القوة أو الضعف في سياستنا الخارجية وفي نشاطنا الدبلوماسي هي نتاج نقاط القوة والضعف في واقعنا الداخلي

ولا شك أن الإصلاح المؤسسي، بمعنى إصلاح وإعادة هيكلة وزارة الخارجية والمؤسسات التابعة لها كالبعثات الدبلوماسية وغيرها، يحتل موقعا متميزا ضمن عمليات يمكن إصلاح سياسة البلاد الخارجية، وبدونه من الصعب تنفيذ عمليات الإصلاح هذه. والإصلاح المؤسسي يشمل إزالة التمكين في وزارة الخارجية والمؤسسات التابعة لها وما لحق بالموارد البشرية من تخريب ومحسوبية وفساد. وفي هذا السياق نشير إلى الرسالة المفتوحة التي نشرها في الإعلام سفيرنا السابق في الصين الدكتور جعفر كرار، والذي أتت به الثورة إلى موقعه الطبيعي ثم أطاح به إنقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021. جاء في الرسالة أن الدولة العميقة عملت كل ما في وسعها لشل ذراع الثورة الخارجي، وذلك بعدة وسائل أهمها:

– حجب الدعم المالي عن وزارة الخارجية التي ما عاد لمنسوبيها في ذلك الوقت السيطرة على بعثاتها، فلم يتقاض السفراء والدبلوماسيون والإداريون مرتباتهم لأكثر من عام ونصف. كما حجبت أموال تسيير السفارات من إيجارات، وخدمات المياه والكهرباء والإنترنت، والحراسة، وغيرها، إلى درجة أن بعض السفارات كادت أن تواجه أوضاعاً قانونية أمام المحاكم، وهي مسألة غير مسبوقة. 2- عدم رفد البعثات المهمة بالكادر الدبلوماسي لسد النقص تحت دعاوى عدم وجود أموال لشراء التذاكر وغيرها من الأسباب الواهية. 3- تحرك عناصر الدولة العميقة في كل الوزارات الأخرى لإعاقة تنفيذ المشاريع والاقتراحات القادمة من السفارات في الخارج، والتي تصب في تنفيذ سياسات الحكومة الانتقالية الاقتصادية والسياسية وغيرها، خصوصاً أن الحكومة الانتقالية رفعت شعار دبلوماسية التنمية.
ومن أهم بنود الإصلاح المؤسسي أيضا، تأكيد ولاية الوزارة على تنفيذ السياسة الخارجية ورفضا للدبلوماسية الموازية، وكذلك التأكيد على أن فتح السفارات يتم وفق معايير محددة على رأسها إرتباط السودان بعلاقات مصالح ومنفعة مع البلد المحدد، وحتى لا يتم إبتسار العمل الدبلوماسي في السفارات السودانية والنظر إلية كمجرد محط أو مكافأة للمتقاعدين من العسكريين والمدنيين كما كانت الممارسة إبان الإنقاذ، والهدف من كل ذلك عودة وزارة الخارجية إلى موقعها الطبيعي كوزارة سيادية بحق وحقيقة وفعلاً ليس قولاً.
ومن زاوية أخرى، لابد من مراجعة ومعالجة أوضاع جميع العاملين في وزارة الخارجية من سفراء ودبلوماسيين وإداريين وعمال، وإعادة النظر في هيكل الوظائف والمرتبات والاقتداء بتجارب الدول النظيرة في هذا المجال. كما لابد من الاهتمام بكادر إدارة الموارد البشرية في وزارة الخارجية، بل وتدريب كافة الدبلوماسيين تدريباً علمياً يواكب التطورات الراهنة والمتسارعة في مجال إدارة وتنمية الموارد البشرية بحيث لا يكون توليها حصراً على أفراد أو تنظيمات أو فئات.
وكما كتبنا من قبل، لقد تضرر السودان كثيرا، حد العزلة القاتلة، بسبب الاختلالات في سياسته الخارجية، سوى من جراء الأدلجة، أو صراعات المحاور، أو السياسات الانتهازية الأشبه بالسمسرة، أو سياسات إعلاء المصلحة الخاصة فوق مصلحة الوطن. وكل هذا يجب أن يُخرس تماما.

التعليقات