تابعت مقابلة تلفزيونية بقناة الجزيرة مباشر قبل ايام ركّز فيها السيد اردول على نقطة مهمة تتعلق بغياب المعايير عند “المشرفين” فيما يخص الاشخاص المُخول لهم الانضمام للاتفاق الاطاري وقد بدى لي أن الرجل محقٌ فيما يقول سيما أننا لاحظنا أن هناك اعتباطية واذا شئت مزاجية تجلت في السماح للبعض والتشدد في منع الاخرين من الانضمام بحجة أن أجسامهم أجساماً هلامية علماً بأنه قد سبق لمثيلاتها أن انضمت للاتفاق.

نعلم جيداً من التجارب السياسية السابقة أن كثيراً من السياسيين يستغلون المنشط العام لحسم الخلافات الشخصية او لاشفاء غليلهم من بعض، فهناك موقف المرحوم السيد الصادق المهدي من اتفاقية الميرغني-قرنق والتي لم تخلو من غيرة شخصية اضاعت على السودانيين فرصة انقاذ الوحدة، والتي تعلل الاسلاميون حينها القيام بانقلابهم المشؤوم لانقاذ “الشريعة الاسلامية” – شريعة امضوا ثلاثة عقود لم ينفذوا فيها غير حيل الفساد والاستبداد والاخطر تبديد وحدة البلاد، تماماً كما فعل كل الاباطرة عبر التاريخ الاسلامي.

بل إن المرحوم متهم بالتواطؤ مع الاسلاميين على قلبِ نظامَ حكمٍ كاد أن يُسحب من تحت أقدامه، وقد أوشكت الاتفاقية أن تحدث ائتلافاً بين اليسار ويسار الوسط. تظل التهمة قائمة إلى حين تمكن النائب العام القادم والذي ستفرزه القيادات الثورية من التحقيق بجدية مع الانقلابيين من العسكريين والمدنيين. لن يفلح أمر هذه البلاد حتى يقام القصاص على كل العابثين بحرمة الوطن والطامعين في سرقة موارده. لابد من الشرعية الثورية وإن طال الزمن.

يجب أن يعي السودانيون أن حفاظهم على وحدة بلادهم أولى من التمسك بالاوهام القروسطية وقد بيّنت في مقالات سابقة (أهمها “الدستور الاسلامي لماذا؟”) أن بوسع المسلمين أن يلجوا العصر الحديث بقيمهم وأخلاقهم وليس بالقوانين الحدية التي هي موضع خلاف، حتماً ليس بالمنظومة الفقهية التي تجمدت في فترة من فترات التاريخ ولم يطولها التجديد منذ القرون الوسطى. إن الغاء قوانين سبتمبر أمر حيوي لن يلج السودانيون الحداثة دونه، كما لن تتحقق المواطنة إلا به، ولن تجدي محاولات الالتفاف حولها.

كل من يمضي اتفاقاً (مع الحلو أو غيره) يجب أن يكون أميناً مع نفسه ومع الأخرين ويبيّن موقفه من القضايا الكبري – تحديداً موقفه من قوانين سبتمر المجحفة والتي تسببت في كل الكوارث التي حلت بالبلاد، وألّا يكتفي بعبارات فضفاضة مثل الدولة المدنية التي يقصد منها التحايل وليس الايضاح. ماذا يعنون بالدولة المدنية تحديداً؟

الغت (قحط) مفهوم المواطنة واعتمدت نهج الموازنة الجهوية والعرقية في تقييمها لاهلية الموقعين، فمبارك الفاضل استبعد ارضاءً لعيال الامام فيما سمح للتيجاني سيسى بالانضمام لأن الاخير من أبناء الفور وهم (اي بني قخطوط) لا يحبذون هيمنة أقلية قبلية مثل الزغاوة، والناظر تِرك سمح له بالانضمام واستبعد عسكوري لأن الاول بامكانه قطع الطريق هو وجماعته وايقاف حركة الاقتصاد السوداني (طبعاً بإيعاز من العسكريين)، إلى أخره من المفاضلات التي تشبه حيل المؤتمر الوطني والتي أودت به إلى مزبلة التاريخ: الترجيح بين المواطنين على أسس غير موضوعية والموازنات على أسس شخصية وأيديولوجية. وكلهم في عرف القحاطة (والشعب عامة) “أرادلة” نفعيون وانتهازيون. فعلام “الخيار والفقوس”!؟

بقي لي أن أعرف مَن مِن (قحط) له من السمو الاخلاقي ما يجعله يصدر شهادات حسن سير وسلوك الاخرين: مريم الصادق، خالد سلك، إبراهيم الشيخ، إلى أخره، مَن بالضبط؟ ما زلت مقتنعاً أن (قحط) صوتت سكوتياً وتماهت مع العسكر على فض الاعتصام وتفاعلت تآمرياً على حكومة المحاصصات التي أسماها الشباب آنذاك “حكومة العاهات”. ما زلت مطالباً ببراءة ذمة لهؤلاء من أموال الإمارات، هل تم تسليمها للنائب العام ام هل تم إيرادها لخزينة حزب الامة وخزينة المؤتمر السوداني أم إننا سنجدها يوماً تحت السرير كما فعل البشير؟

اطلق دكتور مرتضى الغالي على أردول لقب “العاهة السياسية” ولا أدري لماذا اختصه من دون العاهات السياسية الاخرى، فالكل في نظر الكثيرين عاهات باستثناء البعض أمثال بابكر فيصل، محمد عصمت، وأخرين متميزين استبعدتهم حيل التآمر وسبل الهيمنة المعتادة عند الساسة السودانيين، لا سيما الشوفونيين النرجسيين الذين يستمدون أوزانهم من اللافتات الحزبية وليس من المؤهلات الشخصية أو الشعبية الجماهيرية.

تُخطئ (قحط) إذ تظن أن بإمكانها الاستئثار وللمرة الثانية بالمشهد السياسي، فالمراحل اللاحقة للاتفاق الاطاري ستتضمن اختيار رئيس الوزراء الذي اشار الرفيق ياسر عرمان إلى إنه يجب أن يكون سياسياً (هل يشمل هذا الالمام العلمي والمهني بالسياسية ام العضوي بمعنى الممارسة في الغابة؟)، الجهاز التشريعي، المفوضيات، المؤتمر الدستوري، إلى أخره. هذه المراحل تتطلب جميعها إشراك جميع الحادبين وإلا ستفشل ويعقب فشلها فوضى أو إقتتال لا يجدي معه التحالف مع الدعم السريع أو الجيش فالوضع سيكون أشبه بأم كُبك (فوضى عسكرية عارمة). لا سيما أن الكتلة الديمقراطية لن تتورع -حال استبعادها- في استثمار العاطفة لتأجيج الصراع العرقي والطبقي، والكل يعلم أن العاطفة مستعرة ولن يزيدها الهبوب (في هذه الحالة شعور الغوغاء) إلا التهاباً.

يُخطئ حميتي إذ يظن أن (قحط) يمكن أن تكون له بمثابة “طوق نجاة” ومنقذاً من ورطته السياسية وأزمته الوجودية، فالمحروسة لا تعدو -على أحسن الفروض- أن تكون “سمساراً أمينًا” أو “عميلاً مقيتاً” في -أسوأ الأحوال. الذي يملك الفيتو هو الشباب الثائر في الطرقات والذي بات يفرق بين التكتيك والاستراتيجية. يجب أن يترك السيد القائد أسلوب المناورة وأن يلتزم خط قائده العسكري فلن يختلف مصيره عن مصير اعضاء اللجنة الامنية مهما فعل وليتذكر أن القفز فوق رؤوس الافاعي لم يغن يوماً عن علي عبدالله صالح شيئاً وقد كانت ثروته يوم أن أتته المنية ٦٤ بليون دولار (أي عشرة أضعاف ثروة عيال دقلو) حازها الرجل الابيض بمجرد الضغط على الزر وطويت تلكم الصفحة التي كادت أن تصلح لمنطق روائي، هزلي وعبثي.

التعليقات