(١)
الجريمة البشعة – المُستحِقة لأقوى كلمات الإدانة – التي وَثّقها مقطع فيديو مصور في منطقة الصالحة لقوة من الدعم السريع وهي تقتل مجموعة من المدنيين، تختصر مدى التوحش الذي تدحرجت إليه بلادنا خلال هذه الحرب، وهى واحدة من عديد الجرائم والانتهاكات التي طالت المدنيين في كثير من أنحاء السودان

الأكثر استفزازاً للضمير الانساني والأوجع قَصْماً لظهر المناقبية الأخلاقية، أن تبلغ الجرأة في التوحش حدّ الاعتراف والتباهي بارتكاب الجرائم، مثلما فعل أحد مستشاري الدعم السريع في حواره – مساء أمس – مع قناة “الجزيرة مباشر” حول فيديو جريمة الصالحة، حين أكد أن “من تمت تصفيتهم عناصر من الجيش أُسِروا عقب معارك مع قواتنا”. ولم يكن اعترافه العلني هذا بغرض الاعتذار عن الجريمة أو عَزْوِها لخطأ ما، مع الوعد بالتحقيق والمحاسبة، وإنما للتبرير – غير المجدي – بأنها جاءت رداً على ذات الفعل من الجيش”، ضارباً عرض الحائط بالقانون الدولي الإنساني الذي يوجب حماية الأسرى ويحظر الاعتداء عليهم تحت أي ذريعة، حتى لو تمت انتهاكات من الطرف الآخر.

(٢)
في عالمٍ منشغلٍ بصراعاته ومصالحه، لم تعد تداعيات الحرب في السودان تتصدر العناوين الإعلامية أو تستدعي الاهتمام والانفعال كما في بداياتها .. ومع مرور أكثر من عامين على اندلاعها، يبدو أن العالم قد تأقلم مع هذه الحرب، يستقبل صور مآسيها المُروِّعة بغير قليلٍ من اللا مبالاة، ويتابع أخبار انتهاكاتها وكارثتها الإنسانية كما يتابع النشرات الجوية ولا تتعدى ردود الأفعال عليها البيانات المكرورة وتعبيرات المسؤولين الأمميين عن القلق “الذي لا يدفع موتاً ولا يغني من جوع” .. أما الرئيس الأمريكي الجديد – التي أكمل مائة يومٍ في منصبه – فإن قراراته وتصريحاته العديدة حول القضايا العالمية لم تتضمن أية إشارة للسودان رغم كونه يمثل أكبر حالة كارثة إنسانية على وجه الأرض.

(٣)
تبددت كل المبادرات، من “منبر جدة” مروراً بالوساطات الإفريقية إلى منبر سويسرا في أغسطس الماضي .. حتى مؤتمر لندن الأخير – رغم أن انعقاده كان مناسبة للفت أنظار العالم للمأساة في السودان وقُدِّمت فيه تعهدات بمساهمات مالية محدودة تجاه الفجوة الكبيرة في التمويل الإنساني – إلا أنه أظهر انقساماً بين الأطراف الدولية والإقليمية حول التعاطي مع الأزمة في السودان لدرجة الفشل في إصدار بيان ختامي مشترك.
إن انقسام المجتمع الدولي والإقليمي وتراخيه في التعاطي مع الأزمة في السودان يرسل إشارة ضمنية للأطراف المتحاربة بألّا ضغوط عليها تُلزمها بإيقاف الحرب، بل ربما تجد فيه دافعاً للمزيد من التصعيد. وأمام هذا الواقع، لا يبقى للسودانيين خيارٌ للنجاة غير النهوض لإطفاء نار الحرب والإمساك بزمام مصيرهم .. الرهان يجب أن يكون على الإرادة الوطنية، لأن السودانيين أدرى بشعاب الأزمة التي تحرق وطنهم، ولأن من يلامس الجمر بأصابعه ليس كمن يتدفأ به عن بُعد.
الرهان على الإرادة الوطنية لا يعني الانكفاء على الداخل في عالم متداخل المصالح والتأثيرات، بل يعني أن تكون وحدة الإرادة السودانية مدخلاً لتوجيه دور الخارج – لا التبعية له – في مسار إيجابي وفق رؤية وطنية مستقلة تفضي لإيقاف الحرب ووضع البلاد على درب الخلاص، وبناء علاقات خارجية متوازنة قائمة على صيانة المصالح الوطنية وتحقيق المصالح المشتركة مع الآخرين.

(٤)
من أخطر تداعيات هذه الحرب أنها تحولت إلى حالة تهديد لفكرة الوطن الموحد المشترك، حيث يتعمق الانقسام بين المكونات السياسية والاجتماعية بينما يغيب المشروع الوطني الجامع الذي يُلهم السودانيين التطلع إلى ولوج أبواب المستقبل وبحوزتهم المفاتيح الصحيحة بدلاً عن الاستمرار في نهج تكسير المفاتيح الصدئة في غير أقفالها.
وللتذكير: كان حزب المؤتمر السوداني قد أشار في الورقة التي نشرها في يونيو ٢٠٢٣ – وفي أكثر من مناسبة – إلى أن تطاول أمد الحرب سيدفع في اتجاه التقسيم وتحويل السودان المُقسّم إلى ساحة فوضى شاملة تتنازع فيها النفوذ بنادق متعددة، وتزداد فيها وتيرة العنف المتوحش ضد الأفراد والجماعات دون رقيبٍ أو حسيب. وستشكِّل الفوضى بيئة مواتية لتسلل جماعات التطرف والإرهاب من خارج الحدود، مما يوفر ذرائع للتدخل الخارجي المباشر لخدمة مصالح الخارج وفقاً لتوازن قواهُ، دون اعتبار لمصالح الشعب السوداني

(٥)
لا يمكن فهم تعقيدات الأزمة الراهنة بمعزل عن الخلفيات المتراكمة التي وَسَمَت مسيرة الحكم الوطني منذ الاستقلال، حين تعثّر مشروع بناء الدولة المدنية الحديثة على أسس المواطنة والعدالة والتنمية، وظل الصراع يدور في حلقة مفرغة بين النخب من أجل السلطة ومغانمها. وتفاقمت هذه التركة خلال حقبة حكم حزب المؤتمر الوطني وحركته الإسلامية، تلك الحقبة التي خلّفت واقعاً مثقلاً بقبح نتائج سياسات ثنائية الاستبداد والفساد. وكان لهذا التيار دورٌ مباشر في إشعال الحرب الحالية – بهدف استعادة سلطته التي أطاحت بها الثورة – وذلك من خلال سعيه “المُوَثّق” لخلق الاستقطاب وتأجيج الانقسام داخل المؤسسة العسكرية، إلى جانب التلويح بورقة الفوضى الشاملة بعد الرفض الشعبي الواسع لانقلاب ٢٥ أكتوبر .. واليوم، يدعو بعض رموز هذا التيار لفصل دارفور مقابل إيقاف الحرب، وهي دعوة تُذكِّر بتجربتهم في فصل الجنوب، متوهمين أن التقسيم يتيح لهم فضاءً جغرافياً يستطيعون إحكام السيطرة القسرية عليه واستئناف مشروعهم السلطوي باسم الدين .. وفي سياق تعامله مع الحرب كفرصة سياسية، ظل هذا التيار حجر عثرة أمام أية مبادرة لإيقافها عبر التفاوض، غير مكترثٍ بتدمير الوطن ولا معاناة شعبه.

(٦)
رغم اندفاع الأزمة السودانية على مسار الحرب الدامي نحو مزيدٍ من التصعيد والتعقيد، لا يزال بوسع السودانيين أن يحولوا الضارة إلى نافعة والعوائق إلى روافع .. لا يزال الاستدراك ممكناً بالارتكاز على الإرادة الوطنية، بدايةً بالإتفاق – عبر اجتماع مائدة مستديرة – على أسس ومبادئ السلام الشامل والعادل بما يفضي لإيقاف المواجهة بالبنادق وكتل الحديد الزاحفة والطائرة والاستعاضة عنها بمواجهة سلمية نقدية حضارية عبر حوار سوداني / سوداني جامع يكون بمثابة عقل وطني لمخاطبة جذور الأزمة المنغرسة في تربة الواقع والتوافق على عقد اجتماعي يطوي صفحة المظالم والحروب، ويحافظ على وحدة السودان، ويُعبِّئ طاقات أهله كافة لتأسيس وطن جديد معافى من أخطاء الماضي، يُدار عبر التفويض الانتخابي بمنهج إدارة علمي – يتسم بالنزاهة والشفافية وثقافة المساءلة – يُمَكِّن من عبور مستنقع الأزمة وشَقِّ الطريق نحو تحقيق الأهداف التي عبّرت عنها ثورة ديسمبر المجيدة.

(٧)
وفقاً لجدلية التحدي والاستجابة، فإن الأزمات الكبرى تختبر جوهر الشعوب وقيمها ونجاعة إرادتها. والشعب السودان – بطبيعة تكوينه وتجربته المضطربة – يواجه اليوم تحدياً هو الأخطر منذ الاستقلال، لكنه أيضاً يملك إمكانية الاستفادة من التجربة والخروج من النفق المظلم نحو أفقٍ مُضاء .. ولعلّ تضحيات شعبنا الجسام وما يكابده من عناء وشقاء تكون دافعاً لاستدعاء نور البصيرة السديدة الذي يلهم الاستفادة من التجربة ويهدي إلى سُبُل السلام.

التعليقات