حبيبي وأبي ومعلمي وقدوتي الإمام الصادق المهدي؛ عرفته أول مرة من خلال خطابه الذي ألقاه بعد عودته في المصالحة الوطنية وجاءنا الخطاب في “غبيش” ووقتها كان عمري حوالي 13 سنة؛ كان خالي محمد فضل الله مرافقاً للحبيب في رحلة العودة بعد الهجرة وأحضر معه أشرطة ومنشورات وخطابات الحبيب بعد العودة؛ استمعت إلى خطابه مراراً حتى كدت أحفظه، وظللت أتابع خطاباته ومنشوراته بانتظام، ومنذ بداية التسعينات من القرن الماضي أكرمني الله بصحبته، والتتلمذ عليه، والعمل تحت قيادته قرابة الثلاثة عقود من الزمان حتى غادر دار الفناء. وسوف أحاول أن أكتب عن الجوانب التي أعرفها عنه إذا أمد الله في العمر، ولكني في يوم ذكرى رحيله أسجل بعض ما تعلمته منه من باب الوفاء.
كان حاتم الأصم تلميذاً لشقيق البلخي؛ فقال له شيخه صحبتني ثلاثة وثلاثين عاماً فماذا تعلمت مني؟ فقال له تعلمت منك ثمانية مسائل. فاستغرب شيخه كيف يتعلم بعد هذه الصحبة ثمانية مسائل فقط!! ولكنه عندما ذكرها له اطمأن شيخه حيث كانت كل مسألة تمثل علماً قائماً بذاته.
لقد تعلمت من الإمام الراحل الكثير أسأل الله أن يجعله في ميزان حسناته وأن ينفعني الله به في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
المحطة الأولى: فلسفته في وظيفة خطبة الجمعة: في 5 أبريل 1985م كنت طالباَ في معهد الخليفة يوسف ود بدر في أم ضوا بان وفي نفس الوقت في الإجازة أعمل معلماً في خلوة الشيخ الطيب محمد الزاكي في الديوم الشرقية بالخرطوم؛ فذهبت إلى مسجد ودنوباوي لصلاة الجمعة، وفجأة صعد المنبر السيد الصادق المهدي مفتتحاً الخطبة قائلاً :” الحمد لله الواحد القهار، العزيز الجبار، القائل الكبرياء لي وحدي من شاركني فيه قصمته، والصلاة والسلام على النبي المختار القائل:” أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر” هذا النظام الذي يحكم السودان الآن، جثم على صدر هذا الوطن ستة عشر عاماً عجافاً ظلم فيها الناس وكذب عليهم وأفسد حياتهم الخاصة والعامة، وسلط على الشعب سياط البطش والاستبداد داخلياً، وجرَّ على الوطن عار التبعية الأجنبية مهدراً السيادة الوطنية. إلى آخر الخطبة التي ألهبت المصلين وخرجنا في مسيرة جابت مدينة أم درمان. لقد تأثرت جداً بهذه الخطبة وأذكر أني حفظتها من كثرة تردادي لها، ومن وقتها تشكلت ثقافتي بأن الحكمة من تكرار خطبة الجمعة كل أسبوع تتمثل في الاهتمام بقضايا المجتمع كلها وتناولها من الجانب الشرعي.
المحطة الثانية: منهجه في الندوات السياسة: ظللت أتتبع ندواته السياسية بعد سقوط نظام مايو، فحضرت ندوة جامعة الخرطوم التي أبدع في تقديمها الحبيب حمد الزناري، وندوة في معهد البريد والبرق، وأخرى في الصحافة وندوات كثيرة في مواقع مختلفة في أم درمان، وحيثما أقرأ أن هنالك ندوة يشارك فيها أحرص على الحضور، والحق أن ندواته السياسية كانت مختلفة، تخلو من المهاترات، والاساءات للخصوم؛ بل كانت علماً وفناً في التعاطي السياسي، وترسيخاً لثقافة إدارة الخلاف ونقد الأفعال والسياسات لا الأشخاص، وتقديم البدائل بصورة تقنع كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فتأثرت بمنهجه حتى أنني عندما كنت أتحدث في أركان النقاش في الجامعات؛ كان كثير من زملائي يقولون لي إن أسلوبك أقرب للمحاضرة منه إلى ركن النقاش. المهم تعلمت منه أن إدارة السياسة هي الملاءمة بين المتناقضات، وأن الكلمة مسئولية ينبغي ضبطها ومراجعتها قبل التحدث بها، وأن السياسة الشرعية فعل يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد كما قال ابن عقيل.
المحطة الثالثة: منهجه في الخطاب الدعوي: لم ألتق به لقاء مباشراً إلا بعد خروجه من السجن الأول بعد انقلاب الإنقاذ في 1991م حيث تعرف علينا نحن مجموعة من الشباب العاملين في مجال الدعوة، وشجعنا ونظم لنا لقاء دورياً معه للمدارسة في القضايا الدعوية والفكرية والسياسية فنهلنا من علمه وخبرته، حتى أن المرحوم البروفيسور أحمد علي الإمام اندهش عندما قرأ لي حواراً في إحدى الصحف ذكرت فيه أن العلم الذي وجدته عند الإمام الصادق المهدي لم أجده لا في المعاهد الدينية ولا في الجامعة وطلبني ليستوثق من كلامي فأكدت له ذلك. وذكرت له معطيات ما ذهبت إليه فتفهم وطلب مني أن أوفر له مؤلفات الإمام ولكن عاجلته المنية رحمه الله. تعلمت من الحبيب الإمام في منهج الدعوة الآتي:
1- الفهم الوعي للرسالة الخاتمة وعلاقتها بالرسالات السابقة، وأن أفضل عرض لها هو إبراز العوامل والمقومات التي تبين صلاحيتها لكل زمان ومكان وحال باعتبارها رسالة خاتمة وعامة لكل العالمين.
2- القراءة النافعة هي التي تجمع بين الكتاب المسطور (القرآن الكريم) والكتاب المنظور (الكون بكل مفرداته).
3- قراءة السنة النبوية بمنهج يميز بين التصرفات النبوية المتعلقة بالتشريع والتصرفات غير المتعلقة بالتشريع.
4- تقديم الدعوة بأسلوب يخاطب مطالب الإنسان الفطرية العشرة.
5- استصحاب التجربة الإنسانية بمنهج يقبل النافع ويرفض الضار.
6- التمييز بين رفض عقائد المخالفين وأسلوب التعامل معهم.
7- فهم الحكم الشرعي وفهم الواقع المتغير والملاءمة بينهما عند التنزيل.
المحطة الرابعة: التضحية شرط لإنتصار الدعوة: عملت مع زملائي في أمانة الدعوة في ظروف كانت الملاحقات الأمنية لصيقة بنا، وكنا ضيوفاً شبه دائمين في المعتقلات بعد كل خطبة أو مناسبة دينية أو لقاء معه، وكل ما نواجه موقفاً فيه امتحان يشجعنا ويبشرنا بالنصر، وبعد مصادرة مجمع بيت الإمام المهدي وتشريد الهيئة اجتمع بنا لتقييم الموقف واتفقنا على ضرورة اختيار مجلس الحل والعقد لتوسيع المشاركة، وبالفعل استمرت المشاورات قرابة الثلاثة أشهر تحت ضغط المراقبة الأمنية، وبعد أن اتفقنا على الأسماء وقبل دعوة المختارين للاجتماع؛ تم اعتقال أعضاء المكتب التنفيذي لهيئة شؤون الأنصار وقتها وكنت من ضمنهم؛ أمينا للدعوة والإرشاد؛ وبعد ثلاثة أشهر من الاعتقال خرجت من المعتقل ومررت للسلام عليه، فأبلغني بأن مجلس الحل والعقد اختارني نائبا للأمين العام لهيئة شؤون الأنصار فقلت له معتذراً هذا الاختيار غير مناسب لعدة أسباب. أولا: أنا لا زلت طالباً، وثانيا: أنا صغير السن فكيف أشرف على إدارة من هم أكبر مني سنا؟ وثالثا: أنا مولع بالعلم فأريد أن أتفرغ لدراسة العلوم الشرعية. إلخ. فربت على كتفي وقال لي نحن في ظرفٍ الاعتذارُ فيه أشبه بالتولي يوم الزحف؛ فأدركت أهمية الموقف وأن الانتماء يوجب التضحية. ونفس الأمر تكرر في المؤتمر العام عندما رُشِّحْتُ أميناً عاماً، وكنت جالساً بجواره فأردت أن أقوم لأعتذر فأخذ بيدي ومنعني من ذلك؛ فسالت دموعي تلقائياً دون إرادتي لعلها من الإحساس بعظم المسئولية.
المحطة الخامسة: الوطنية حاضرة في كل مواقفه السياسية: كان يمارس السياسة بتجرد ووطنية؛ هدفة كرامة المواطن ونهضة الوطن، ولذلك ظل يدعو لإشراك الآخرين في أي قضية وطنية، عرضت عليه الشراكة عدة مرات في عهد الإنقاذ، فقال إذا اتفقنا كيف يحكم السودان فأقبل أن أكون خفيراً أما بالتعيين فلن أقبل أن أكون رئيساً، وكان يقول لنا نحن أصحاب قضية عادلة لا ننتصر لها بالباطل؛ سافرت معه لعدة دول مثل قطر والأردن ولبنان والسعودية ونيجيريا؛ فما سمعته يطلب شيئا شخصياً أو حزبياً بل حديثه كله عن السودان وضرورة حل مشاكله بالتوافق؛ قال له سمو الأمير سلطان بن عبد العزيز ماذا تريدون منا؟ وكنا بصحبته في زيارة رسمية فكتب له خطاباً أطلعنا عليه وكانت كل القضايا التي تناولها قضايا وطنية صرفة، وقضايا الأمة وصراعاتها، وتقديم مقترحات لمعالجتها، وخلت من أي مطلب حزبي أو شخصي. صحبته في زيارة لإيران في عهد الرئيس محمد خاتمي وكان هو في قيادة المعارضة في الخارج؛ وبعد انتهاء الزيارة غادر طهران وطلب مني أن أتأخر وأقابل السفير السوداني وأنوره بالغرض من الزيارة وما تم نقاشه معهم، ليعلم أننا نعمل لأجل الوطن وليس من أجل مصلحة حزبية أو خاصة.
المحطة السادسة: منهجه في الشورى: طيلة صحبتنا له كان يستشيرنا في كل القضايا التي تتطلب المشورة؛ في خطبه وخطاباته وكتبه ومواقفه وأنشطته، وكان يأخذ بالرأي الذي اتفقنا عليه وإن خالف رأيه، ورغم موسوعيته المعرفية، وخبرته التراكمية، إلا أنه كان متواضعاً لأبعد الحدود، فعندما يقدم أحدنا خطبة يطلب منه أن يحضرها له مكتوبة تشجيعاً له وتدريباً على التواضع. منهجه في الاستماع لكل الآراء وصبره جعله قادراً على استصحاب الجميع باختلاف مواقفهم وآرائهم؛ ولذلك فهو متربع على القلوب محبة وتقديراً واحتراماً.
المحطة السابعة: إنسانياته: يتمتع بلمسات إنسانية غير طبيعية فهو يتعامل مع الصغير والكبير والمرأة والرجل باحترام وتقدير ويحترم آراء المتفق معه والمخالف له، ولا يميل إلى العنف مهما كانت مبرراته، ويتميز بجبر الخواطر؛ ويستجيب لكل من طلب منه شيئا لا يحرج أي إنسان مهما كان مقامه؛ أذكر مرة كنت بالقاهرة في رحلة أكاديمية، وعلمت أنه قادم من نيويورك في طريقه للخرطوم، فذهبت إلى مطار القاهرة لأستقبله فلما وصل إلى الصالة قابلته فرأيته مرهقاً؛ قلت له لماذا لا تنزل هنا لبضعة أيام لترتاح ثم تواصل رحلتك؟ وافق على ذلك وقال لي وأنا في الطائرة قلت لنفسي إذا اقترح علي أحد عدم مواصلة الرحلة فسأوافق. إنسانياته تركت بصماته في كثير ممن تعاملوا معه.
لقد كنت أمة أستاذي ومعلمي وإمامي؛ أسأل الله أن يجزيك خير ما جازى إماماً عن أهل زمانه، لك من الله الرحمة والرضوان.
أبلغ تعبير يلخص ما أعرفه عنك يا حبيبي هو ما قاله محمد عبد القادر كرف في جدك الإمام عبد الرحمن المهدي:
خَفُّوا بِنَعْشِكَ مُسْرِعِينَ كَأنَّمَا فَصَمُوا عُرَى التَّارِيخِ ثُمَّ تَفَرَّقُوا

التعليقات