المتابع للشأن الوطني العام وخاصة في الوسائط الالكترونية يلاحظ انتشار الخطاب العاطفي واحياناً الفوضوي الجانح الي الهتافية والهتر. والمؤسف حقاً ان يحدث هذا بعد أن عبر التغيير مراحل متقدمة نحو الكمال وبعد أن نجحنا في تكوين مجلس السيادة وحكومة الفترة الانتقالية وبعد أن تقدم كل المشهد خطوات كبيرة نحو الاستقرار.
وما كان لهذا ان يتم ويحدث تجاوز كل اللحظات الحرجة لولا انتصار إرادة الوعى والحكمة والمسئولية الوطنية على العواطف والاجندة الخاصة على مستوى قيادة قوي إعلان الحرية والتغيير والقوى النظامية بالدولة.
ولعل المتابع لتتالي الاحداث يشهد أيضاً أن صوت العقل والحكمة، كان هو فرس الرهان الذي حفظ تماسك هذا التحالف الواسع في أكثر الأوقات شحناً واختلافاً، ومن ثم قاد الشارع وحفزه الي مواصلة الضغط والي الانتصارات الواضحة في كل مراحل المواجهة مع النظام البائد.
تجلت صور المسئولية لدي كل المكونات الوطنية بوضوح منذ انطلاق الثورة المجيدة في منتصف ديسمبر ٢٠١٩ حيث تداعت القوى المعارضة الي بعضها البعض وخاصة فيما بين تكويناتها السياسية في نداء السودان وقوي الإجماع الوطني وتناسب اختلافاتها السابقة.
ظلت الاتفاقات هي النتيجة الغالبة في اللحظات الحاسمة من تاريخ المواجهة الطويلة للشعب السوداني وقواه الحية مع نظام الاخوان المسلمين الدولي، الذي تحكم في رقاب السودانيين لثلاثين عام سامهم فيها الحرمان والعذاب والقهر والقتل في أبشع صوره..
ولابد لنا ان نتذكر المشاورات المتصلة التي قادتها القوى الوطنية المختلفة بعيد انطلاق الثورة وفي ظل سطوة النظام القمعي وملاحقاته، وما تم من تنازلات كبيرة من كافة الاطراف بالمجموعات المدنية وقوي نداء السودان والاجماع الوطني حتى تم الوصول إلى تحالف قوي إعلان الحرية والتغيير. حدث ذلك برغم التباينات المتسعة فيما بين تلك التكوينات حتى قبل اللحظات الحاسمة من تاريخ الثورة..
وما كان لتحالف قوي إعلان الحرية والتغيير ان يلتئم ويتوحد لولا التنازلات المتبادلة من كل الاطراف. وما كان للشارع ان يندفع ويتواصل في مواجهته القوية والراتبة والمتصاعدة مع الوقت ويتحمل كل الأثمان الباهظة الي ان اسقط النظام لولا اقتناع الشارع ان هذا التحالف الواسع قد مثل البديل الامثل والمأمون لقيادة الدولة السودانية بعد إزالة نظام الانقاذ.
ويحسب لتحالف قوي إعلان الحرية والتغيير انه عزل النظام من الشارع، ووحد إرادة التغيير في مواجهته، وحفَّز الشارع للاندفاع أكثر فأكثر فأربك النظام ورفعت بعض مكونات النظام اياديها من دعمه وحاولت اللحاق بالشارع، وخاصة وسط المكونات النظامية في الجيش والأمن والدعم السريع، والتي لعبت دوراً حاسماً في وضع رأس النظام في الحبس واعلان الاستيلاء على السلطة بواسطة الجيش.
لكن قوي إعلان الحرية والتغيير واصلت العمل في اطار هذا التحالف الواسع، ولم تطمئن لانشطة القوى النظامية التي أعلنت الانقلاب على السلطة حتى عندما أعلنت حبسها لرأس النظام، وواصلت في تماسك تحالفها الي أن إنجلت كل الخطط، وكانت تخشي ان تكون تلك مجرد تمثيلية لجأ اليها النظام كما كان بشأن الكذبة الكبرى عندما ذهب شيخ النظام الي السجن حبيسا وبقي القائد العسكري في القصر رئيساً. واصلت القوى الوطنية في ووحدتها وتماسكها ومن ورائها الشارع، حتي افشلت كل الخطط والمكائد، والي ان انتصرت إرادة التغيير الكامل على النظام.
ثم أتت مرحلة لاحقة تحجرت فيها بعض قوى إعلان الحرية والتغيير، حتي كاد هذا التحالف الواسع ان ينهار ويتفرق، في ظل محاولات الحزب الشيوعي فرض رؤيته لما يجب أن تنتهي اليه الاحداث وبناءاً علي أجندة سياسية كان يستهدف ان يستخدم فيها الشارع الثائر للقضاء علي القوى السياسية المتحالفة معه، ثم يمكِّن كوادره ويهيمن على كل المشهد، في تجربة بديلة للتمكين الذي ثار عليه الشارع ورمى بأغلب رموزه في كوبر.
لقد كانت تلك الحماقة من الشيوعي هي السبب في حدوث مجزرة القيادة العامة في الثالث من يونيو المنصرم. يجب أن يُسأل الحزب الشيوعي عن مجزرة ميدان القيادة على قدم المساواة مع الذين ارتكبوها بشكل مباشر على الأرض. فإن كان القتلة قد نفذوها بحق المعتصمين فان الشيوعي قد مهد لها البيئة والمبررات لمن قام بإرتكابها من خلال منهج التصلب والاستعداء والاستفزاز المستمر حتى مع حلفائه في قوى إعلان الحرية والتغيير. لقد كانت مجزرة القيادة جريمة نكراء وجرح سيبقي ينزف ويستفذ الضمير الوطني.
وبرغم الألم والقصة التي في الحلوق، إلا أن هذه المجزرة البشعة ستبقى رادعاً لكل من يحاول استخدام القوة المفرطة وحدها لحل اي اشتباك وطني بين المكونات الوطنية، وستبقى واحدة من اقوي مبررات رفض الشارع لحكم العسكر في المستقبل.
هذه المجزورة برغم بشاعتها إلا انها كسرت إرادة الشذوذ في المجموعات المتصلبة داخل قوي الحرية والتغيير ومن اهما الحزب الشيوعي والذي كان يغرد خارج السرب في انتهازية واضحة ومحاولات عديدة لورثة الثورة وضرب كل المشهد السياسي بإرادة الشارع الثائر.
تم قهر إرادة الحزب الشيوعي وتم اجباره على الهروب عن اجندته العدمية، مما مهد الطريق لانتصار صوت العقل وسط تحالف قوي الحرية والتغيير، والذي كان يقوده ويقف على قمته حزب الامة بقيادة الامام الصادق المهدي وبعض قادة حزب المؤتمر السوداني، حتى تم كتابة وإجازة وثيقة الفترة الانتقالية والتي مهدت الطريق لتكوين مجلس السيادة في دار حزب الأمة ومن ثم الحكومة.
الحزب الشيوعي رفض وثيقة الفترة الانتقالية ونعتها بافظع الأوصاف وكان المنتظر ان يعف عن المشاركة في كل ما اتاحته هذه الوثيقة من حكومة ومجلس تشريعي وحكومات ولائية، ان كانت مواقفه بالفعل تقوم على مواقف أخلاقية، لكنه كالعادة به وبكل انتهازية سابق الجميع، حتى دون ان يعترف بخطأ تقديراته السابقة.
عدد كبير من الناشطين في الميديا، وحتى بعض القوى السياسية ظلوا ضحايا لخطابات التشنج والانغلاق والتفسيرات المجتزءة لمالات الاحداث من بعض القوى السياسية الصغيرة. وقد ثبت بالوقائع أثناء احداث الثورة ان الحماقة والانغلاق والنظرة الضيقة للأحداث كادت ان تذهب بجهد الجميع الي الضياع. وكانت من اهم اسباب الكوارث التي حدثت في تاريخ السودان الحديث وتسببت في ضياع اهم فرص الانجازات الوطنية العظيمة.
الوطن الان اكثر حاجة من ذي قبل لاستمرار الخطاب الهادئ والمتعقل والي مواصلة برنامج الوحدة وبرنامج الحد الأعلى المشترك فيما بين مكونات قوي إعلان الحرية والتغيير والي تنظيم هذا الجسم ليتمكن من تحمل المسئولية في العمل على أجندة الثورة بالسرعة وبالكيفية الحاسمة، من أجل رد المظالم والعبور بالوطن الي مرحلة إعادة البناء والاستقرار وتجاوز التحديات الكبيرة التي انفجرت او ستنفجر كل حين في ظل الخراب الواسع الذي خلفه النظام البائد. وبسبب تمكن التنظيم المجرم من مفاصل الدولة والاقتصاد وامتلاك كوادر للمؤسسات اقتصادية ضخمة ومتحكمة في النقد والموارد الوطنية المختلفة.
المقالات
التعليقات