*دكانةالحياة
نفق الخلود
“صاحبي صاحبي” *
(1)

لحظات من التأمل، وومضات من التدبر، تُحيل كل ماعقلته وخبِرته وما اعتقدت انك قد تدبرته إلى هباءً منثوراً، حيال ماخلصت إليه من نتائج باهرة ودلالات عميقة،
“الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا”
يقول صلاح أحمد إبراهيم في قصيدته الإلياذة ( نحن والردى) ،
مالذي أقسى
من الموت؟!
فيجيب عن هذا التساؤل
اجابة غير مباشره، أن لا شيء أقسى من الموت، ولكنه يسترسل في ذات الإطار ويكمل، وهو يقصد الموت بكلمة هذا، والتي تعني أن هذا الذي لا يوجد أقسى منه،
*هذا قد كشفنا
سرَّه
واستسقنا
مرَّهُ
صدئت آلاته
فينا
ولا زلنا نعافر
….
وهذه المعافرة، معافرة الدنيا، التي نعافرها وتعافرنا،تأخذنا في تخوم بعيدة جدا وتعود بنا القهقري إلى حيث كنا،
ثم يتحدى اخو فاطنه بفنجرية عالية المنايا
ويقول لها ويدعوها
بقوله:
يا منايا حوَِمي حول الحما واصطفي
كل سمح النفس
بسام العشيات
الوفي
الكريم العفُّ
كالانسام
روحا وسجايا
أريحيَّ الوجه
والكف
إفتراراً وعطايا
..
وكل من أرسل يعزي
كان يبتدر بالكريم الهاش الباش، فكانت سمة البشاشه واللقاء بالوجه الطلق ذي الإفترار لازمته وعنوانه، وأسوق من ذلك
رسالة الأخ الكريم رشيد الجعفري من اليمن السعيد، حفظه الله وأهله
يكتب معزيا في فقده ومصابنا الكبير،

“بقلوب يملؤها الحزن تلقينا نباء وفاة والدكم الشهم الكريم صاحب الخلق الرفيع والوجه البشوش
اللهم املئ قبره نورا وروحه ضياء
افتح له باب للجنة لايسد وسعادة لاتنقطع
اللهم اعصم قلب أخي ضياء وجميع أهله وإخوانه وأحبابه
عظم الله اجركم واحسن الله عزاكم ورحم الله ميتكم والهمكم الصبر والسلوان وإنا لله وإنا إليه راجعون
أخوكم الأسيف رشيد”
يطفر الدمع، مع نهاية رسالة أخي رشيد،
وكل يحكي طرفة أو نادرة، أو موعظة تبادلها معه، أذكر محمود الشهير ب (قلقل) والذي أصابه العمى شيئاً ما، وتثاقلت رجلاه، كيف جاء يجرهما جراً وهو يخم أنفاسه وينكب على أخي إيهاب (حاج أحمد) بكاءً أذهلنا، والوجه يعبر عن حزن دفين وعلاقة قوية وراسخة،
ثم يأتي الشيخ أحمد عوض إمام المسجد وخطيب الجمعة وشيخ الحلقة، من سفره الي المنزل يقول اول ما جاءني حزنت وتألمت، ويردف سنختم القرآن بالمجمع الإسلامي ونهب ثواب ذلك لروحه، أذكر في تلكم اللحظة خطفات الأنس بينه وبين الوالد، ثم ضحكته المجلجله التي لا تقدح في وقاره وهيبته، والتي لا يتنزعها منه إلا عمه ابراهيم ، ويبتسمان،
كان قارئاً مواظبا على حلقة التلاوة في المسجد
ذاكراً، مصليا على النبي عليه الصلاة والسلام، كان دكانه الصغير هو محرابه الي المسجد القريب، يفصل بينهما شارع قصير، فكان المسجد والدكانة ملتقى احبته وأصدقائه، يتحسر الشيخ أحمد ويقول: كنت أاتي إليه فكيف أفعلها بعده، يأتي رجل وضيء القسمات، لا يعرفه أحد اصوله من جنوب السودان، يذرف الدمع المدرار ويتمتم بأسى، صاحبي صاحبي!! ، تذكرته كنت شاهدته مرة يتكلم معه بالرطانة ثم يضحكان فلا أملك إلا أن ابتسم فرحة لهذا الجمال وهذا الفرح ، ويضحك الذي يقول صاحبي صاحبي، من سويدا قلبه ضحكات جزله، أسأله من هذا، يقول صاحبي ويصفه بالرجل الطيب المحافظ على صلواته، أقول: وما هذه الرطانة؟!
:يبتسم ويقول :”دي رطانة أهله في الجنوب، أعرف منها كلمات قليلة، وهو أضاف لي منها بعض الكلمات” ، خلاصة مافهمت من الأمر أن هذه الرطانة القليلة كانت تدخل السرور على قلب صديقه وكانت تسعده أيما سعاده، لذلك كان يبتدره بها، وتبدأ المحاورة والضحكات، وصديقه ابن الجنوب يصحح له بعض الكلمات لينطقها النطق الصحيح، فينطق بعضها ويتعثر في أخرى، وتنطلق الضحكات، وكأني به يتعمَّدها، ليرى ضحكات صاحبه المدوية ويسري عنه ما كان يعرفه من هموم، فيخرج من عنده منشرح الصدر متهلل الأسارير لا يسعه الطريق من سعادته المتمدده ومن الطاقة الإجابيه التي امتلأ بها، حين تذكرت تلكم اللحظه علمت مرارة الفقد التي يحسها من يقول بلوعة صاحبي، صاحبي، وكأنيَّ به يقول، مع من أضحك بعد الآن، صاحبي، صاحبي!!! ، مع من أقهقه بعد الآن، صاحبي، صاحبي!!! ،
كثيراً من الصور التي تتوالى، في لحظات التأمل، وتُختزن في الذاكرة، حتى إذا ما ألمَّ الخطبُ، ووقع البلاء خرجت هذه الصور المخزون من مكمنها في زمنها الموقوت تماماً، كقطع اللوحة المقطعة الي أجزاء صغيرة فتنتظم في الذاكرة لوحة متكاملة.
واااااا حر قلبي يا ابتي
صاحبي، صاحبيً!!!
صاحبي، صاحبي!!!

التعليقات