ابتداءً أهنئ حكومة الثورة على اتخاذ هذا القرار المهم، ولكن لا بد أيضاً من التحسُّب لمخاطره كما سأوضح أدناه. نظام سعر الصرف “المعوَم” هو أفضل خيارٍ متاحٍ لإعادة التوازن للعملة الوطنية وتقليص العجز الهيكلي في الحساب الجاري وتوحيد سعر الصرف والقضاء على السوق الموازي للنقد الأجنبي في ظل قلة الاحتياطي المتاح للبنك المركزي. وأنا شخصياً كنت قد سعيت، بل وناضلت من أجل هذا الإصلاح المحوري منذ منتصف العام الماضي عندما كنت في الوزارة، وبعد مغادرتي الحكومة كتبت بإسهابٍ عن ضرورة اعتماد التعويم في ورقتي الموسومة: “حول إصلاح الاقتصاد السوداني: الرؤية، البرامج والسياسات، أكتوبر 2020”.
إلا أنني، كما أشرت في مقابلة مع صحيفة التيار الأسبوع الماضي، لابد من التنبيه إلى أن نجاح التعويم مرهونٌ بتوافر شرطين أساسيين، سنعرض لهما أدناه. أخيراً، لا بد أن تكون هناك خطة تواصل لتوضيح تبعات التعويم في مراحله الأولى.
لكن دعني أعالج باختصار، لماذا التعويم هو أفضل خيار متاح مُقارنةً بخيارات أخرى كانت مطروحة؟
إذا أخذنا تثبيت سعر الصرف الرسمي كخيارٍ، يعني استمرار الوضع القائم. بالمقابل، تبني نظام سعر الصرف المُدار لا محالة سيوفر هدفاً مثالياً للمُضاربين الذين سيعملون على وأده في مهده تماماً كما حدث في عهد النظام السابق في العام 2018.
أيضاً، تركيبة الواردات السودانية تجعل من الصعوبة بمكان معالجة العجز الهيكلي في الميزان التجاري باللجوء لحظر الواردات، بالنظر لأن أكثر من 85% من هذه الواردات إما سلع استراتيجية أو مُدخلات إنتاج ضرورية. بالتالي لا يمكن مُعالجة أزمة شح النقد الأجنبي ووضع حدٍّ لتدهور قيمة العملة الوطنية عن طريق هذه المقاربة “الهيكلية”. إذن، الخيار الوحيد المتاح هو تعويم سعر الصرف لتصفية السوق الموازي وتحريك “سعر الصرف الحقيقي” لإنعاش الصادرات وإحلال الواردات لجسر هوة تقدر بحوالي 5 مليارات دولار يتم تمويلها حالياً من السوق الموازي.

– ماهي الشروط المطلوبة لنجاح التعويم في استقرار وتوحيد سعر الصرف في نهاية المطاف وكذلك وضع حدٍّ للتضخم؟
لابد من التحذير بأن التعويم سوف لن يُحقِّق هذه الأهداف، بل قد يحمل معه مخاطر السقوط الحُر لسعر الصرف والتضخم الانفجاري إذا لم يتم دعمه باستيفاء شرطين أساسيين:
– أولاً، لابد أن يُمنع تمويل المصروفات وعجز الموازنة بصورة عامة عن طريق الاستدانة من بنك السودان بصورة عشوائية وغير مبرمجة، وهذا يتطلب تقليص عجز الموازنة إلى أقصى حد وكذلك توفير قنوات تمويلية غير تضخمية لإدارة السيولةً.
– ثانياً، يجب أن تتحول الدولة إلى بائع صافٍ للنقد الأجنبي لتمويل واردات السلع الاستراتيجية بواسطة القطاع الخاص.
يُجدر الإشارة إلى أنّ هذين الشرطين بالغا الأهمية لنجاح التعويم حسب النماذج النظرية لاقتصاد سعر الصرف وتجارب الدول التي نجحت في برامج إصلاح اقتصادي مُشابه.
عليه، لا بد من العمل على تحقيق هذين الشرطين بالتوازي مع إنفاذ تعويم سعر الصرف وهناك إمكانية كبيرة لاستيفاء هذين الشرطين في حالة السودان عن طريق إصلاحات مؤسسية ناجزة يمكن البحث فيها في مجال آخر.
أخيراً، لا بد من خطة تواصل مجتمعي لتوضيح تبعات ومآلات التعويم؟
يجب توضيح تطورات سعر الصرف المُعوّم للجمهور بصورة شفافة حسب المراحل الآتية (الشكل أدناه):
خلال الفترة ( t0إلى t1) يتسيد السوق الموازي بينما تتوسع علاوة سعر الصرف الموازي مقارنة بالسعر الرسمي الثابت عند 55 جنيهاً للدولار، جزئياً بسبب المضاربة المرتبطة بتوقعات بقرب إصلاح نظام سعر الصرف وأيضاً بدرجة أقل كنتيجة لسعي الجمهور لاقتناء النقد الأجنبي كمخزن للقيمة.

الفترة اللاحقة ( t1إلى t2) والتي يُفترض أن تشهد توحيد سعر الصرف وأيضاً ظاهرة “تجاوز سعر الصرف” أي ارتفاعه بصور متواترة، تعتبر مرحلة قاسية أشبه بالعملية الجراحية اللازمة لاستئصال مرضٍ عضال، حيث تسيطر ظاهرة “تجاوز سعر الصرف” (إلا أن توفر هذين الشرطين سيخففان إلى حدٍّ كبيرٍ من وطأة هذه السياسة التي لا مناص منها كما بينت في ورقتي في أكتوبر الماضي).

تتطلب هذه الفترة ( t1إلى t2)، والتي قد تطول أو تقصر حسب توفر الشرطين أعلاه، إرادة سياسية قوية وخُطة تواصل مجتمعي توعوية متينة تُحظى بدعم السلطة التنفيذية وحواضنها السياسية وتكتسب مصداقية باستعداد السلطات الاقتصادية، خاصة وزير المالية ومحافظ البنك المركزي تحمُّل المسؤولية السياسية والمهنية الكاملة في حال الفشل في تحقيق الأهداف المتفق عليها.

إذا تيسر الالتزام بنظام التعويم، سينتقل الاقتصاد بحلول التأريخ t2 إلى مرحلة تأسيس التوازن الاقتصادي في الميزان التجاري واستقرار سعر الصرف حول السعر التوازني المنشود.
د. إبراهيم البدوي.

التعليقات