يمكننا القول الان ان جيلا من السودان القديم من الذين تربوا في أحضان الاستعمار الانجليزي ، ومنذ نعومة أظافرهم و تلقوا كل مراحلهم الدراسية وحتى الجامعة والاستعمار لم يزل جاثماً على صدر البلاد، وليس صحيحا انهم طردوا المستعمر، ولكن الاستعمار غادر البلاد من بعد أن تركهم في قلب الحياة وسدة الحكم. وقال نيوبولد:( قد خرجنا ولكن من بعد ان تركنا من خلفنا قواعد فكرية) ويقصد الذين ظلوا يحكموننا عبر العهود العسكرية والديمقراطية، أجسادهم وأبدانهم معنا و عقولهم وقلوبهم خارج الحدود، وقد شقيت البلاد بهم أيما شقاء حينما استأثروا بكل خيراتها لصالح فئة معينة أطلقت على نفسها طبقة المثقفين وهي لا تساوى 5% من الشعب السوداني، وهي التي وجهت موارد الريف والحضر لأجل مصالحها وهم الذين كلما أتي حاكم عسكري يهرعون إليه زرافات ووحداناً، يقدمون فروض الولاء والطاعة ويتفانون في خدمته، ويثبتون أركان حكمه ويحيطون به إحاطة السوار بالمعصم، يكيلون له الثناء ويدبجون له المديح و التقارير التي تخدم مصالحهم أو تحافظ عليها، قد سكنوا أفخم البيوت في قلب العاصمة القومية ، وعلّموا أولادهم أحسن التعليم في خارج البلاد أو داخلها، ينتمون وجدانياً إلى غير هذا الشعب، ولكنهم يريدون فقط أن يحكمونه ويتسلطون على رقابه، يتحججون بالوطنية وهم منها براء، ولو كانوا وطنيين حقاً لكانوا مثل أفراد الشعب السوداني؛ يأكلون كما يأكل ويسكنون كما يسكن.
من فضل الله على هذه الأمة أن هذا الجيل قدغادر الساحة الآن ،وكان بعضهم قد توزع في الأحزاب بشكل انتهازي، ليصعد على أكتاف الجماهير البسيطة إلى كرسي الوزارة، ليس بهدف رفع معاناة الشعب وتحسين أوضاعه، ولكن من أجل استغلاله والصعود به إلى حيث يريدون، وقد كان الحياء يمنعنا من الحديث، ولكن الآن قد بلغ السيل الزبى وبلغت الروح الحلقوم. وجيل من بعدهم ليس علي شاكلتهم ولكنه لايختلف عنهم كثيرا يقبض علي زمام الامور.
أصحاب الياقات البيضاء من هذا الجيل قد استغلوا حتى الطبقة العاملة وقضاياها، فهم يتكلمون باسمها ويتاجرون بقضيتها وصولاً إلى أهدافهم البرجوازية الصغيرة، وكم من مفارقات قد شهدناها حين نرى أقواماً يتحدثون عن الفقراء والمسحوقين والهامش ، ولكنهم يتطاولون في البنيان ويتبارون في كسب ود الأجنبي من خلال تقديم الخدمات الجليلة والمستمرة، تحت مسميات مختلفة طوراً منظمات المجتمع المدني وأخرى حقوق الإنسان، وما إلى ذلك من إفرازات النظام الرأسمالي القمئ، وانزوت طبقة العمال وحقوقها وقضاياها تحت وطأة البرجوازية الصغيرة، وبعضهم قد أشعل فتيل الحرب، وأوقد نارها، تأتي على الأخضر واليابس، وهو يعيش في الفنادق ذوات الخمس نجوم ويرتزق من دماء الضحايا، وقد ولغ في دماء الناس والعياذ بالله.
قد آن للصامتين أن يتكلموا في هذا البلد، وأن يصدعوا بكلمة الحق القوي، وأن يقال كل المسكوت عنه، وقد قالت العرب:
“إذا ما الجرح رمَّ على فساد
تبيّن فيه إهمال الطبيب”.
فلابد من أن نفتح جراحنا الغائرة وننظفها من القيح والصديد، وأن يصرخ الجسد من الألم، ومن بعد ذلك؛ نضع الدواء في موضع الألم، أما أن نربت على جراحاتنا ونأتي بالمسكنات والداء ينخر في دواخلنا؛ فذلك وأيم الله عين الغباء وغاية الاستهتار والغفلة.
بكل أسف، فإن ذاكرة أجيالنا محشوة بالكثير من الغث، تحتشد فيها ذكريات مؤلمة وأحاديث هراء مثل عبارات “صحن الصيني لا فيهو طق ولا شق”،وهي كلمات لاسماعيل الازهري وقد كان فعلاً الصحن صينياً، وما أكثر الشقوق فيه والطقوق، أي ذاكرة نحملها في دواخلنا، وكم تحتاج إلى كلمة ،“delete” وهذا ما يعجبني في التكنولوجيا الحديثة، أنها تمحو ذاكرة كاملة فقط بالدوس على زر (OK) وهذا ما نحن بحاجة إليه الآن، ليس على كل المستويات، ولكن فقط على المستوى السياسي الذي كان عبارة عن سنوات من التيه والتخبط والانهيار المستمر، وعبر العهود العسكرية والمدنية او الديمقراطية معاً بسبب هذا الجيل الأناني.
لكم أنا مشتاق لزمان الجيل الجديد الذي يحمل ملامحنا، وهو جيل لا يعرف الكذب والنفاق الاجتماعي، قد تواصل مع الإنسانية قاطبة ولكن لم يصطنعه الاستعمار لنفسه أو ينفخ فيه من روحه، هو جيل كل ما يميزه أنه جيل بلا ذاكرة، صادق إلى حد الثمالة، موضوعي غاية الموضوعية، لا توجد أي قواسم مشتركة أو تقاطعات ما بينه وبين الأجيال التي قد سبقته، فقد “صفّر” العداد ولم يبدأ من حيث انتهى الآخرون، ولكنه يكوّن وعيه بطريقته الخاصة من غير تمرد ظاهر أو اختلاف يأتي. إنه الجيل الذي سوف يبني السودان الجديد، وقد استعدوا نفسياً وذهنياً، ولكن الكتل البشرية من الأجيال السابقة تسد عليهم الطرق وتحتكر المواقع، ولابد من إزاحتها برفق او بغيره ليحدث الانسياب الطبيعي لحركة الأجيال.
بقدر ما أنني متفائل بالمستقبل، وبرغم الحاضر وعفونته، إلا أنني شديد الحذر من المؤامرات التي تحاك في الخفاء ضد هذه البلاد حتى لا تنطلق هذه الأمة من أسرها وتفك قيودها وترتاد آفاق الرقي والتقدم والازدهار، وقد حباها الله من الثروات العظام، وأفاء عليها من نعمائه الجليلة الظاهرة والباطنة منها، وأغدق عليها من العطاء والأنهار تجري من تحتها وتنهمر الأمطار من السحاب الثقال كل عام، وتخرج الأرض خيراتها خضراً وفاكهة و”قمحاً ووعداً وتمني”، ولو اننا استخرجنا البترول ونفائس الأرض من الذهب واليورانيوم والحديد والنحاس؛ لبلغنا شأواً عظيما وما أروعنا ونحن نتغنى بأعذب الأشعار وأروع الألحان الشجية في اغاني الحقيبة والغناء الشعبي والحديث ، . ولا شك أن هذه الوجوه السمر والجباه الغر على موعد مع القدر طال الزمان أم قصر، أراد البعض أو لم يرد،
المقالات
التعليقات