تفكيك بنية الدولة الدينية الاستبدادية

الرفض الذي تقابل به الدولة الدينية من جانب قطاع مُفَكِّر ومعتبر، من المستنيرين، عميقي الفكر، ليس لأنها “دينية”، وإنما لأنها “استبدادية”. فالدين ظل يسيطر على حياة أغلب الناس، عبر التاريخ، لكن جرى استخدامه في نطاق الأديان الإبراهيمية، بخاصة، كغطاء للاستبداد. جرى اقتلاع سلطة الكنيسة في أوروبا من أجل استعادة حق الشعب في السلطة والثروة، التي احتكرها الأباطرة والإقطاعيون، المسنودون بسلطة رجال الدين. ولذلك كان ما قام به كل المصلحون الدينيون، مثال، كالفن ومارتن لوثر، مفتاحيا في التمهيد للتحرر من تلك القبضة المكبِّلة للتقدم، ولإرساء مبادئ الحرية والعدالة. نفس الوضع، التي عاشته أوروبا في القرون الوسطى، قائمٌ الآن، في دول النطاق الإسلامي. فدول هذا النطاق، حتى التي تُعد علمانية، هي في حقيقتها دولٌ دينية مستبدة، مسنودة بسلطة رجال الدين المنتفعين من السلطان. ولعل موقف من يسمون “رجال الدين” من ثورة ديسمبر 2018، في السودان، يعطي نموذجا شديد الوضوح لهذه الشراكة النفعية بين من يُسمى “رجل الدين” والحاكم المستبد.

الأثر العثماني الباقي

ربما لا ينتبه كثيرون إلى أن الاستعمار التركي للدول العربية، الذي جرى تحت مسمى “الخلافة الإسلامية”، قد صبغ معظم الأقطار العربية بصبغته التي يجسدها التحالف بين الحاكم المستبد، والمؤسسة الدينية الفقهية، لحماية الاستبداد، المستتر بقداسة الدين. شعرت تركيا، في بدايات القرن العشرين، وهي الجارة لأوروبا، بالتخلف الذي أورثه إياها هذا النمط الفاسد من أنماط أنظمة الحكم، فألغت نظام الخلافة، وهدمت أركان الدولة الدينية الزائفة المستبدة. بل تطرفت، تحت قيادة أتاتورك، فأدارت ظهرها، بالكلية، للفضاء العربي الإسلامي. بل، وتخلَّت، حتى عن كتابة اللغة التركية بالحروف العربية، واستبدلتها بالحروف اللاتينية. اقتلعت تركيا النموذج العثماني، لكنه بقي، كما هو، في الدول العربية، التي استعمرتها، بدعوى “الخلافة الإسلامية”.

بقيت الدولة السودانية، منذ استقلالها، على هذه الصورة من التحالف بين الحاكم الفاسد المستبد، ورجل الدين، حتى خلال فترات الحكم الديموقراطي. وما تسمى عندنا الشؤون الدينية والأوقاف، ومثيلاتها في الدول العربية، ليست سوى البؤر التي ورثتها الدول العربية من ذلك النمط العثماني. هذا الدور الحارس للسلطة الاستبدادية، هو ما ظل يلعبه الأزهر، وتلعبه المؤسسة الدينية الوهابية السعودية، وكذلك وزارات الشؤون الدينية في مختلف الأقطار العربية. فرجال الدين هم يرسمون للدول العربية توجهاتها، فيما يتعلق بالحقوق. رغم أنهم لا يعرفون العلوم العصرية، ولا يفقهون شيئا في كيفية بناء الدول. بل لا تعرف أكثريتهم غير اللغة العربية. بل، إن ما يعرفونه منها قديم بالٍ، يوشك أن يندرس. فالذين ينشدون التغيير، في هذا الفضاء المكبل عقليا، ووجدانيا، دون أن يفهموا هذا المأزق الديني التاريخي المزمن، ودون أن يسعوا إلى الخروج منه بأدواته، مثلما حاول مختلف رواد الإصلاح الديني، سيكونون كالمنبت، لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.

“المصالحة” المعرفية التوعوية

المصالحة المعرفية التي أدعو لها تعني إدارة حوار مفتوح من على جميع المنابر، لكي تحدث مصالحة وطنية شاملة، وتوافق على ثوابت قومية رئيسية، بها يتحقق الاستقرار ويتهيأ المناخ لتحول ديموقراطي، لا تكبله نزعة ثارات الماضي، وعداواته، والكيد المتبادل، المعهود، بين القوى السياسية. ويعني هذا، في البدء، العمل ضد ما ظل يجري، منذ بداية الفترة الانتقالية، من محاولة امتطاء ظهر شرعية ثورية ليست مكتملة الأركان، واستخدامها للتخلص من الخصوم السياسيين بالإجراءات، دون الانتباه إلى تجذر هؤلاء الخصوم في الوعي المجتمعي. فالإشكالية إنما تكمن في بنية معرفية متخلفة، واسعة الانتشار، لا يمثل الإسلام السياسي منها، إلا جزءا يسيرا. لكنه يلعب فيها دور مايسترو الجوقة الموسيقية. ولكي يكون هناك حوار معرفي، مجتمعي، شامل ينتظم كل الوسائط الإعلامية، لابد من وجود جميع الأطراف. فالمصالحة التي أعني هي رعاية الفترة الانتقالية عبر أجهزتها الإعلامية لحوار مفتوح، يناقش أسباب تعثر بناء الدولة السودانية، وفضح أخطاء القوى السياسية كلها، وتغيير المفاهيم الدينية المتخلفة. ولابد أن تكون جماعة الإسلام السياسي طرفا في هذا الحوار، وإلا كان “حوار طرشان”.

لكن، تقتضي هذه المصالحة المعرفية أن يتقدم الإسلامويون خطوة خارج ما كانوا عليه من صلف وعنجهية وادعاءٍ للمعرفة المطلقة بسبل الرشاد، ومن الجنوح لفرض رؤيتهم على الناس بالقهر. ولقد أحسن الله تعالى إليهم حين نزع من أيديهم السلطة. فالسلطة الاستبدادية هي أكبر مانعٍ للنمو المعرفي والأخلاقي. وما السقوط السريع لنظامهم بتلك السرعة التي أذهلتهم، وشلَّت فكرهم، سوى صفعةٍ إلهيةٍ، لإيقاظهم من غفلتهم المطبقة، وتحريرهم من جنون الحرص على كرسي الحكم. وفي تقديري، إن فقدانهم للسلطة سيجعلهم أقرب إلى الانخراط في حوار يستهدف إرساء ثوابت وطنية، تنزع فتيل الكيد المتبادل الذي أقعد البلاد، وأنهك العباد لما يزيد عن ستة عقود.

الإخوان والعسكر

ينبغي أن يقلع الإسلام السياسي، بكل أطيافه، مرة وإلى الأبد، من التزلف للعسكر، بغرض اتخاذهم مطية إلى كرسي السلطة، لأن دين العسكر هو السلطة، أيضا. جاء الترابي بالبشير إلى السلطة، فأخذ البشير السلطة من الترابي. يداهن العسكر الثورات مرحليا، في حين يتربصون بها، ريثما ينقلبون عليها. استخدم اليسار العسكر، مركبا إلى السلطة، في مايو 1969، وأستخدمهم الإسلامويون مركبا إلى السلطة، في يونيو 1989، لكن العسكر، ما لبثوا أن احتكروا السلطة. وقف المشير سوار الدهب؛ حصان طروادة الإسلاميين، داخل نظام جعفر نميري، مع الشارع، وترك المشير جعفر نميري لوحده، حين شاهد نظامه يتهاوى. وترك كلٌّ من البرهان وحميدتي، ومن معهم، المشير عمر البشير لوحده، حين رأوا أن نظامه يتهاوى. والآن يقدم الجنرالان رِجْلاً ويؤخران أخرى، وهما يعملان بدأب، لوأد الثورة وخلق حالة إشكالية جديدة، قد تؤخر التحول الديمقراطي للبلاد عقودا، مرة أخرى. على الغرماء الأيديولوجيين، من يسارويين ومن إسلامويين، ومن تبعهم، أن يتعلموا من هذا التاريخ المضطرب، المشحون بالصراعات غير المنتجة.

الإسلامويون والتَّقِيَّة

تعرِّف بعض المعاجم العربية كلمة “التَّقِيَّة” بأـنها الخشْيةُ والخوفُ. وتقول إن “التَّقِية” تعني لدى بعضَ الفرق الإسلامية: إِخفاءُ الحَقِّ ومُصانَعةُ الناس في غير دولتهم، تحرُّزًا من التلف. ولقد شهدت عدد من المنعطفات التي وصل فيها الإخوان المسلمون إلى السلطة، في بعض البلدان العربية، ممارسة نهج التقية هذا. ففي الجزائر، على سبيل المثال، فاز الإسلامويون بالانتخابات، في بداية تسعينات القرن الماضي. وما أن وصلوا إلى السلطة، حتى صرَّح بعضهم أن الانتخابات تنتهي ممارستها بوصولهم هم إلى السلطة. وقاد ذلك إلى انقلاب عسكري، وإلى عنف إخواني مضاد، استمر لعقد من الزمان. وضاعت على الجزائر فرصة التحول الديموقراطي، منذ ذلك التاريخ، وإلى الآن. وحدث هذا في مصر، فما أن وصل مرسي وإخوانه إلى الحكم، جنحوا إلى التمكين، على غرار النموذج الإنقاذي السوداني، فثار نصف الشعب المصري ضد ثورته، وقام بإعادة الحكم إلى العسكر. ويتكرر ذلك السيناريو، الآن، في تونس، على نحوٍ مختلف. الشاهد، إن الإسلامويين ما أن يصلوا إلى السلطة، يكرههم الناس. وسبب ذلك هو هذه “التقية” المخاتلة، التي تُظهر في مرحلة السير نحو كرسي الحكم، خلاف ما تُبطن من نوايا الاستبداد، والانفراد بالقرار، واستخدام العنف.

نحن الآن بحاجة ماسة جدا إرساء بعض الثوابت، الوطنية، الديموقراطية. على رأس تلك الثوابت، خروج الجيش، تماما، من حقل السياسة. إضافةً إلى تخلي جميع القوى السياسية عما كانت تمارسه من محاولات لاختراق الجيش، وخلق خلايا تابعة لها داخله. أيضا، لابد من التوافق على الثوابت الديموقراطية، المتعلقة بحرية الرأي والتعبير عنه، والاعتراف بأن المجتمع السوداني مجتمع متنوع لا يمكن حشره تحت مظلة عقيدة دينية واحدة. ولأن مسألة تفكيك الإرث العثماني، المتمثل في تحالف مرتزقة رجال الدين مع الحاكم المستبد، والخروج من قبضة الفكر الديني الاستبدادي الفاسد، أمر جوهري في إرساء قواعد التقدم، فإن إصلاح وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، وتحييدها، أمر بالغ الأهمية. فهذه الوزارة وجيوشها من الأئمة والوعاظ، وأعني هنا المسيِّسين منهم، هي المعادل الموضوعي للكنيسة في عصور أوروبا المظلمة. ولا يمكن أن تنطلق البلاد في دروب التقدم والأمن والاستقرار والسلام، إلا إذا أنهينا، بتوافق عريض، احتكار رجال الدين المسيسين، لمنابر المساجد، واتخاذها منصاتٍ لخدمة الإسلامويين، حصريا. يضاف إلى ذلك، إصلاح الجهاز العدلي، بجميع مكوناته، وضمان حياديته، بحيث ينحصر عمله في إنفاذ القانون، وحراسة الدستور الديموقراطي.

المصالحة ليست من أجل الإفلات من العدالة، ولا من أجل المحاصصة، وإنما لخلق منصة حوار مفتوح من أجل إرساء مبادئ جديدة، غير معطوبة بالخلافات حول الثوابت الوطنية والديموقراطية. ما يجري الآن من القوى المتحكمة في الفترة الانتقالية يتسم بقصر النظر، وهو يشبه ما جرى من اليسار، عقب ثورة أكتوبر، وسيقود، حتما، إلى ردة فعل يمينة قوية، عقب الفترة الانتقالية. من قصر النظر، هذا النزوع الشعبوي الذي أراد أن يشغل الناس بمحاكمة مدبري انقلاب يونيو 1989. فهل هناك حزب سياسي سوداني واحد، من الأحزاب الفاعلة، لم يشارك في انقلاب عسكري، أو في التخطيط لمحاولة انقلابية. ما يجب هو محاكمة الإنقاذيين على جرائمهم، كلها، الجنائي منها والمالي، وليس على الانقلاب. لأن المنطق المستقيم يقضي حين نحاسب الإنقاذيين على الانقلاب، أن نقوم أيضا بمحاسبة حزب الأمة، والحزب الشيوعي، وحزب البعث، والقوميين العرب، على الانقلابات، التي سبق أن نفذوها، فعلا. (يتواصل).

التعليقات