المحاولة الإنقلابية التي أعلن عن فشلها مؤخرا، لعلها كانت الزناد الذي أشعل فتيل الحرب السياسية الدائرة الآن في السودان.
وربما لهذا السبب يقول البعض، أو يفترض، أن إشعال هذا الفتيل تم عن عمد وسابق تخطيط بهدف تشبيع راهن المشهد السياسي السوداني بأجواء ملائمة تمهد لإنقلاب ليس بالضرورة تسبقه المارشات العسكرية. وغض النظر عن مدى صحة هذا القول أو الإفتراض، فمن الواضح أن الحديث عن المحاولة قد خفت ليفسح المجال لإنفجار العدائيات في كل الاتجاهات، حتى بين حلفاء الأمس القريب، وليخلق ظروفا مواتية ومشجعة لأن تطل القوى المعادية للثورة برأسها.
وفي إعتقادي، هذه مفارقة غريبة ومريبة وخطيرة في نفس الوقت. ولكن، سرعان ما إنزاحت الغلالات المهترئة التي حاولت بظلالها المتقطعة أن تحجب مصادر هذه الريبة والغرابة، عندما رُفعت على أسنة الرماح دعاوى العودة إلى منصة التأسيس متوسلة بالإنقلاب في مواجهة المد الثوري لجماهير الثورة، بعضهم يريد أن يقصي من يعتقد أنهم أقصوه، والبعض الآخر ركب على ظهر أولئك، ليقصي الثورة ويزهقها. إنها بالتأكيد دعوة باطل أريد بها باطل! إن الهدف الأساسي والعنوان الرئيسي لثورة السودان هو كسر الحلقة الشريرة وإيقاف دورانها ما بين الإنقلابات العسكرية التي تطيح بديمقراطيات هشة ضعيفة، وإنتفاضات تطيح بنظم تلك الإنقلابات التي كانت تتوهم القوة والمنعة والإستدامة، وهي أبعد من ذلك تماما، وأقرب إلى مراكمة البؤس والأزمات، فماذا يريد هؤلاء؟
نحن لا نرى سوى منصة واحدة يمكننا أن ندعو بالعودة إليها، إنها منصة الحوار بين قوى الثورة التي يجمعها إعلان وميثاق الحرية والتغيير الموقع في يناير/كانون الثاني 2019، والحوار بين أطراف الأجهزة الإنتقالية المكونة بموجب الوثيقة الدستورية الموقع عليها في الرابع والسابع عشر من أغسطس/آب 2019، وذلك غض النظر عن تباين وتباعد أو تقارب مواقف هذه القوى والأطراف، وإن كانوا يحبون بعضهم البعض أم لا، هذه هي دعوة الحق التي يراد بها حق! أتمنى فعلا أن يرتفع مستوى وعي هذه القوى وهذه الأطراف إلى مستوى توقعات وأمنيات هذه الدعوة، فتبدي ما يقنع الناس بإدراكها أنهم جميعا يتشاركون مسؤولية مصير شعب وبلد مهدد تماما وفعليا بالإنفجار، وعليهم واجب سياسي ووطني وأخلاقي أن يعودوا إلى منصة الحوار، لا «لغطغطة» الخلافات، وإنما لمناقشتها بالمكشوف وبكل مسؤولية لصالح هذا البلد وشعبه الذي ظل صابرا منذ فجر الإستقلال ولا يجني سو الريح. وفي كل الأحوال لا بد من مصارحة الشعب بكل صدق وشفافية.
من الواضح تماما أن القوى المضادة والمعادية لثورة ديسمبر/كانون الأول العظيمة، قد إغترت بأداء أجهزة الإنتقال الضعيف، خاصة تجاه أعداء الثورة والمتربصين بها من أزلام النظام البائد، كما إغترت بتمزق وحدة تنظيمات قوى الثورة، وتجشأت فرحا حين ظنت أن الإحباط تسرب إلى الثوار بسبب أداء أجهزة الإنتقال، وأن اليأس تمكن من الثورة، وأن الفرصة أتتها لإخماد شعلة الإنتفاضة، وهي لا تدري إستحالة أن تطفئ جذوتها، مثلما لا تدري أن خروج شعب السودان إلى الشوارع ليصنع ثورته المجيدة، كان إعلانا صريحا وواضحا برفضه مواصلة التفرج على خشبة الحياة وهي تتهاوى في كل بقاع الوطن، وترجم هذا الرفض إلى هبة جماهيرية كاسحة، ثورة كاملة الدسم، لا يقودها ولا ينظمها ولا يستغلها أي حزب أو تنظيم سياسي، ثورة حظيت بإجماع شعبي، الأول من نوعه في تاريخ السودان المستقل، وليس واردا أن تُحسب لهذه الجهة أو تلك، ثورة يمكن أن تتعدد مراحلها، وتعترضها صعاب وعرة وانتكاسات وهزائم مؤقتة، ولكنها ستواصل سيرها إلى الأمام حتى الإنتصار الكامل للحرية والسلام والعدالة. بالطبع، صحيح أن أي محاولة، أو مغامرة، إنقلابية من الممكن أن تنجح فنيا، بمعنى السيطرة على القيادة العامة للقوات المسلحة والاذاعة والكباري والقصر والاعتقالات وخلافه، لكن، في ظل الأوضاع الجديدة والتطورات والمتغيرات العاصفة التي يشهدها عصرنا الراهن، داخليا في السودان وعلى الصعيد العالمي، لا أعتقد أن أي إنقلاب يمكن أن يستمر ويستطيع أن يعيد دورة القمع ليحكم مرتاحا، كما في السابق. بالإضافة إلى أننا كلنا شهود على تصميم الشباب وعزيمتهم على دحر أي محاولة لإجهاض الثورة وإنسداد الأفق أمامهم وفي وجه تطلعاتهم وآمالهم. صحيح يمكن أن يُحبطوا من أداء الحكومة وينفضوا من حولها، لكنهم أبدا لن ينفضوا من حول التمسك بالمدنية والديمقراطية ورفض النظام الشمولي. وصحيح، دائما تظل هناك إمكانية تجدد الحرب الأهلية لتعم كل البلاد.
والآن، لا أعتقد أن العمل يمكن أن يستمر كالمعتاد، ولا بد من وقفة مراجعة دقيقة وصارمة، ولا بد من إعادة النظر في كل شيء. وفي المقام الأول، وعلى صعيد الشارع والحراك الشعبي، يظل الواجب المقدس هو وحدة قوى الثورة والعمل في كل المجالات وبكل المستويات من أجل تمتين هذه الوحدة، ونبذ كل الخلافات والتناقضات، ولو مؤقتا، في سبيل هذه الوحدة بهدف الدفاع عن الثورة وحماية الإنتقال والتحول الديمقراطي، وبهدف التركيز على تصفية قوى الثورة المضادة في كل المواقع المدنية والعسكرية، وتقديم كل من إرتكب جرما في حق هذا البلد وشعبه إلى العدالة.
وحقيقة، أرى أن كل من ينأى بنفسه عن هذه الوحدة وهذا الهدف، هو في مصاف الخيانة. أما على صعيد أجهزة الإنتقال، فأرى ضرورة الشروع فورا في تشكيل وبناء الأجهزة القضائية والعدلية، خاصة المفوضية ومجلس القضاء العالي ومجلس النيابة والمحكمة الدستورية. وهناك عشرات الإقتراحات حول هذا الأمر، ومئات الكفاءات التي يجب الإستماع إلى مبادراتها في هذا الشأن. كما أرى التكوين الفوري لمفوضية صناعة الدستور والمؤتمر الدستوري، وتحديد جدول زمني لإنجاز المؤتمر الدستوري وكتابة الدستور، وكذلك التكوين الفوري لمفوضية الإنتخابات وتحديد جدول زمني لإجراء الانتخابات.

التعليقات