لأهل السودان مثل شعبي حكيم يقول: “اسمع كلام الببكيك، ما تسمع كلام البضحكك”. منذ اندلاع الحرب، اخترنا أن نقول الحقيقة كما هي، رغم أنها قد تكون مؤلمة بعض الشيء، خصوصاً مع ما خلفته الحرب من جراح وغضب وضغائن في نفوس الناس بسبب الانتهاكات الجسيمة التي تعرض لها المدنيون الأبرياء. لكن، وكما قال الإمام المهدي: “الفش غبينتو خرب مدينتو”، ولأننا لا نريد لبلادنا الخراب، فقد اخترنا طريقاً صعباً، نأمل أن نترفع فيه عن “فش الغبائن”، ونختار طريق العقل والأمل في غدٍ أفضل لبلادنا دون حروب أو موت أو دمار.

عقب ختام مفاوضات سويسرا الأخيرة دون التوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار، كان من المتوقع أن تدخل البلاد في دائرة جديدة من المواجهات العسكرية العنيفة، إذ أن تعذّر الحل السلمي وانغلاق أبوابه لا يعني سوى التوجه نحو الحلول العسكرية، أملاً في حسم الصراع عبر نصر عسكري لهذا الطرف أو ذاك. وبالفعل، انفجرت المواجهات المسلحة في الفاشر وسنار والخرطوم، وسط دعاية حربية مكثفة تروّج لانتصارات تقترب وتلوح في الأفق.

ترى، ما هي نتيجة هذه المواجهات؟ النتيجة هي الموت والدمار والتشريد. لا منتصر فيها، والخاسر الوحيد هو الشعب السوداني الذي يبكي على من فقدهم بدموعٍ حارقة، وتُدمّر بلاده أمام عينيه بلا طائل، ويتشرد في المنافي، يشكو الفقر والجوع وهوانه على الناس. فقد أحالتنا هذه الحرب إلى لاجئين يشتكي منا من استقبلنا، وتتساءل شعوبهم: لماذا يتقاتل أهل السودان فيما بينهم، وتتحمل دول جوارهم نتائج هذا القتال؟

وسط هذا الدمار والمواجهات التي تمزق السودان، يمكنك أن تقلب القنوات الفضائية والصحف العالمية، فتجد أن العالم مشغول بقضايا عديدة، ولا يشكل السودان أولوية فيها. فالعالم يعج بالحروب والصراعات، ورغم أن السودان بالأرقام يمثل الكارثة الإنسانية الأكبر، إلا أنه لا بواكي له. ولماذا يبكي العالم على السودان، وبعض أهل السودان أنفسهم لا يبكون على بلادهم، وهم يشاهدون حريقها؟ كلما امتدت يد لإطفاء هذا الحريق، تكالب نفرٌ منهم لقطعها، وصب مزيد من الزيت على النار، ليرقصوا على طبول الحرب والموت والدمار ويقولوا: “هل من مزيد؟”

تتوجه بلادنا الآن بسرعة الصاروخ نحو التقسيم والتفتيت. من لا يرى هذه الحقيقة فهو شخص بلا بصيرة. التفتيت صار الآن أقرب من أي وقت مضى، وتعمل لتحقيقه أيادٍ كثيرة داخلية وخارجية. وعقب ذلك، لن يكون هناك شيء يُسمى السودان، وستقضي أجيالٌ من السودانيين نحبها في المنافي والنزوح، وقد لا يجد بعضهم من يستر جثمانه أو يبكي عليه. ما سيقود بلادنا إلى هذا المصير هو الظن بأن هناك حلاً عسكرياً لأزمات بلادنا. تاريخنا يقول إن حروبنا الأهلية تطول، ولا حل لها إلا عبر الحلول السلمية التفاوضية. هذه هي قصة الحرب في الجنوب، وفي دارفور، وفي الشرق، وفي جبال النوبة، وفي النيل الأزرق. وهذه هي قصة الحرب الكبرى التي تعم كافة أرجاء السودان الآن. صدق أو لا تصدق، أخي وأختي، من صدق دعاية إمكانية حسم هذا النزاع عسكرياً بانتصار طرف على آخر، لا توجد ساعة حسم قريبة تلوح في الأفق، وستجلس الأطراف المتحاربة لاحقاً للتفاوض. وإن كان الحال كذلك، أليس من الحكمة والتعقل أن يجلس أهل السودان لبعضهم الآن، قبل فوات الأوان ودون مزيد من الدماء والدمار؟

إن الطريق الذي سنسير فيه رغم مشقته، هو طريق البحث عن حلٍ سلمي سوداني بالأساس، دون انتظار حلول تمطر علينا من السماء. هذا هو المخرج الوحيد الذي تحجبه غيوم التضليل والأكاذيب والدعايات التي تدغدغ المشاعر وتغيب العقول. نؤمن أن هذا الحل ممكن، ونقترب منه يوماً بعد يوم. نسير نحوه وقلوبنا تتمزق كل ساعة بما يحدث في بلادنا بأيدي أبنائها. ونثق أن الحق سينتصر لا محالة، وأن كل الباطل الذي يعم البلاد الآن زائل بلا شك. سينتصر الحق بوحدة الأصوات الراغبة في السلام، وقدرتها على اجتراح الحلول لقضايا بلادنا التي تتعقد يوماً بعد يوم. المخرج والأمل معقود بأيدي أهل السودان متى ما أرادوا ذلك، وصدقت نواياهم وعزيمتهم نحو تحقيقه. فهل نفعل ذلك الآن دون مزيد من الدماء والدمار؟

التعليقات