الفترة الانتقالية ليست مجرد تمرين سياسي عادي، أو مجرد مرحلة تحضيرية للانتخابات كما يحاول البعض إختزالها، بل هي فترة فائقة الأهمية بالنسبة لحاضر ومستقبل البلد، تنفذ خلالها مهام محددة منصوص عليها دستوريا، في وثيقة دستورية أو دستور انتقالي، منها ما يتعلق بتصفية تركة النظام المباد، ومنها ما يتعلق بكسر الحلقة الشريرة ووضع لبنات وأسس وطن مستقر وآمن، تظلله سماوات الديمقراطية والسلام والعدالة. وحسب ما يشهده السودان منذ فجر استقلاله، فإن هذه المهام هي قطعا مهام تاريخية ومصيرية، الفشل في إنجازها يعني الإنزلاق إلى هاوية الهمجية المرعبة. ولأن الفترة الانتقالية بهذه الأهمية المصيرية، ولأن من المفترض أن تشارك وتساهم في إنجاز مهامها كل القوى المؤمنة بالثورة دون إقصاء، وحتى لا تُترك فريسة يتناهشها التنافس الحزبي، علما بأن الجميع واعٍ بمعاناة هذه الأحزاب بعد ثلاثة عقود من القمع والتجريف، تم التوافق، والنص في الوثيقة الدستورية لعام 2019، على أن تقود الدفة كفاءات وطنية، بعيدا عن المحاصصة الحزبية، وفي ذات الوقت بعيدا عن الإقصاء وتمكين البعض.
وآمل أن يكون معنى ذات النص مضمنا في أي وثيقة دستورية يجري التفاوض حولها الآن، كما آمل أن يكون هذا التفاوض خاليا من أي إتجاه لأن يتم الإكتفاء بقصر التدابير الانتقالية على مجرد التغيير السطحي والشكلي، وحصره في إعادة توزيع كراسي السلطة بين الأطراف المتفاوضة، لأن في ذلك فتح أكثر من باب واسع للفشل، والفشل هو أساس الحرب الأهلية وتفتت الوطن.
تشهد فترتنا الانتقالية الراهنة، تنافسا سياسيا واجتماعيا حادا، وهذه سمة طبيعية من سمات فترات الانتقال عموما. لكن، يمكن ضبط هذا التنافس لصالح نجاح الفترة الانتقالية، وذلك من خلال المؤسسات التشريعية، كأطر منظمة ومراقبة وفق القانون، لأن في غياب هذه المؤسسات، تلوح في الأفق إمكانية إخفاق العملية السياسية في تنفيذ مهام الانتقال، في حين أن المجلس التشريعي الفعال، هو وحده القادر على ضمان عملية التحول السياسي والديمقراطي في الفترة الانتقالية، بعيدا عن نزعات الإقصاء والاستئصال، أو الإختطاف. ولعل من أهم وأخطر واجبات ومهام المجلس التشريعي الإنتقالي، مراقبة أداء الحكومة ومساءلتها، وتغيير تركيبتها إذا إقتضى الأمر، تحقيقا لمبدأ منع إساءة استخدام السلطة وحماية حقوق المواطنين وحرياتهم. وفي هذا السياق، نشير إلى مسألة توسيع قاعدة المشاركة في إدارة وقيادة الفترة الانتقالية، وهو مطلب موضوعي وعادل، ويمكن تحقيقه من خلال المجلس التشريعي الانتقالي، مع أهمية التقيد الصارم بتشكيل مجلس السيادة ومجلس الوزراء الانتقاليين من الكفاءات المستقلة بعيدا عن المحاصصات السياسية والحزبية والجهوية. أيضا، ومن وحي تجربة الفترة الانتقالية الراهنة منذ العام 2019، نشير إلى نقطتين، نتعشم الإهتمام بهما من قبل القائمين بأمر العملية السياسية الراهنة:

النقطة الأولى، نصت الوثيقة الدستورية لعام 2019 بتكوين المجلس التشريعي الانتقالي خلال تسعين يوما من تاريخ التوقيع على الوثيقة. لكن، منذ إعتماد الوثيقة الدستورية في 20 أغسطس/آب 2019 وحتى الانقلاب عليها في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، إتسمت كل محاولات تشكيل المجلس التشريعي بالفشل الذريع.
واليوم، يبدو أن ذات النص، تشكيل المجلس خلال تسعين يوما، متوافق عليه في دهاليز العملية السياسية الجارية. ونحن، وبإعتبار الاستفادة من الخلل الذي صاحب محاولات تشكيل المجلس آنذاك والتي إتسمت بمطاولات عقيمة، وأخذين في الإعتبار أوضاع الأطراف السياسية وطبيعة العلاقات بينها، وكذلك بؤر التناقضات العديدة في المشهد السياسي الراهن، نقترح التخلي عن الصيغة القديمة لتكوين المجلس التشريعي الانتقالي، حيث نعتقد من الصعوبة، وربما الاستحالة، تشكيله وفق تلك الصيغة، وحتى لا تنتهي الفترة الانتقالية ونحن لانزال في محطة كيفية تشكيل المجلس.
ونقترح بدلا عن ذلك تكوين آلية قومية تضم قيادات كل القوى السياسية والحركات المسلحة والمجتمع المدني والقوى الشبابية ولجان المقاومة والشخصيات الوطنية، باستثناء أزلام النظام البائد ولافتاته الجديدة، بواقع مندوب أو مندوبين من كل جهة، وذلك لاختيار قيادة الفترة الانتقالية، رأس الدولة ورئيس الوزراء، ثم تواصل الآلية الإطلاع بمهام التشريع والرقابة والمحاسبة. وعموما نرى أن يعطى أمر تشكيل مؤسسة التشريع، وفق هذا المقترح أو أي مقترح غيره، الأولوية القصوى قبل تشكيل الأجهزة التنفيذية.
النقطة الثانية، جاء في وسائل الإعلام أن أطراف العملية السياسية توافقوا على تشكيل مجلس السيادة من تسعة أعضاء، وأن المنطق وراء ذلك إحتفاظ قيادات الحركات المسلحة في مجلس السيادة الحالي بمواقعهم. وإذا صح هذا الأمر فإنه يثير فينا حزنا واستهجانا. فبحكم نظام الحكم المتوافق عليه للفترة الانتقالية، رأس الدولة/مجلس السيادة هو رمز للسيادة الوطنية وليس لديه أي صلاحيات تنفيذية. لذلك المنطق أن يكون شخصا واحدا، أو لا يتعدى الخمسة أشخاص إذا كان لابد من الكثرة، أو إذا كان لابد من استدعاء التجربة السودانية. وإذا كان أي قيادي، من الأحزاب أو الحركات المسلحة، يود فعلا أن يسهم بفعالية في قضايا الانتقال، وفي قضايا القاعدة الاجتماعية التي يمثلها أو يعلن نفسه مدافعا عن حقوقها، كما هو الحال بالنسبة لقادة الحركات المسلحة، فإن موقعه المناسب هو عضوية المجلس التشريعي الانتقالي، وربما مجلس الأمن والدفاع أيضا لإعتبارات الترتيبات الأمنية، وليس مجلس السيادة الذي تنحصر صلاحياته في الإعتماد والتوقيع والمصادقة والرعاية، إلا إذا كان الأمر يتعلق ببريق المنصب ومتعلقاته، والتي لن تخدم سوى إرضاء «الأنا»! وعموما فإن تجربة مجلس السيادة قبل 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، والذي وصلت عضويته إلى أربعة عشر رأس دولة، لم تكن ناجحة بشهادة عضويته، أما مجلس السيادة الذي تم تشكيله بعد ذلك التاريخ، عقب إعفاء الأعضاءالمدنيين فيه، فكان فاقد الطعم والمعنى، وبالطبع فاقد الأهلية أيضا!

هنالك مجموعة أخرى من النقاط، لكن حيز النشر لا يسمح، وسنتناولها في المقال القادم.

التعليقات