في العادة تخرج (السلطة) اسوأ مافي البشر، ولا نستثني السودان بطبيعة الحال، فرغم جمال وعظمة ثورة ديسمبر الملهمة، إلا أنها أفرزت الكثير من الإشكالات التي تعاني منها الثورة اليوم رغم إيماننا الكامل بأنها (ثورة وعي) وترديدنا لذلك بإستمرار، إلا أن هذا الوعي بات مهددا لنجاح الثورة وإستمراريتها.
عدم الوعي الذي أعنيه هو وقوع البعض تحت تأثير فترة الإنقاذ والتي إجتهدت منذ اليوم الأول لها في السلطة على بث روح التفرقة بين الشعب والاحزاب ووضع حاجز نفسي كبير بينه وبينها، ناسين ومتناسين انه لا ديمقراطية بلا أحزاب ولا حكم بلا رؤى سياسية.
ولحسن الحظ إنهار هذا الحاجز قبيل ثورة ديسمبر عندما ظهرت قيادات بعض الاحزاب في الاسواق والمساجد وهي تناهض سياسات الانقاذ ونالها الكثير ما نالها من قتل وتعذيب وسجن وتشريد، فبدأ الشارع يستعيد بعضا من ثقته فيها ليتوج بالثقة الكاملة في بدايات الحراك الثوري في ديسمبر 2018 عندما وجدها في مقدمة الشارع لتشكل أكبر تحالف سياسي في تاريخ السودان اسقط نظام الإنقاذ. ضم هذا التحالف قادة النقابات التي قادت ثورة ضد نقابات الانقاذ وشكلت ما يُسمى بتجمع المهنيين الذي كان مُلهم الشعب وكلمة السر المحببة، يضع جدول المواكب ويحدد قيادتها وغيرها من تكتيكات مع قوى إعلان الحرية والتغيير قادت لإسقاط الإنقاذ. ساعد في ذلك بطبيعة الحال الإسناد الجماهيري الكبير الذي إنتج لجان المقاومة والتي تشكلت حينها بخليط من الشباب غير المنظم سياسيا وشباب الاحزاب وكان تكامل الادوار الذي توافق عليه الجميع حينها قبل أن تنشط الخلايا النائمة وبقايا الإنقاذيين وممن تعارضت مصالحهم مع حكومة الثورة، وبدأ بث سمومهم لإحداث الربكة بين مكونات الثورة بنشر ثقافة التخوين وتحميل الأحزاب كافة الأخطاء وتصويرها كسارقة للثورة، دون الإشارة للشريك الاخر والذي خان الوثيقة الدستورية ، وللأسف انساق الكثيرين وراء هذا الخط بلا وعي منهم فدبت الخلافات داخل الأجسام المتحدة التي كانت سببا في نجاح الثورة، وحتى لجنة (إزالة التمكين) التي كانت روح الثورة، وأكبر كيان حكومي يلتف حوله الشعب الثوري، لم تسلم من الاستهداف الممنهج وضرب قادتها في مقتل، ولعل ما حدث من إطلاق سراح لصوص المال العام من قبل الانقلابيين وإستعادتهم ما نهبوه من ثروات الوطن وفرارهم خارج السودان أكبر دليل على أن هناك من يدق إسفين بين الشارع والأحزاب لأجندة محددة.
الشريك العسكري الذي هو جزء أصيل من حكومة الإنقاذ بدأ يعمل بهدوء لإنجاز مهامه بعد أن بذر بذرته الخبيثة بتناحر قوى الثورة الحية، واصبح الشارع لا يمل تقديم الإساءة للأحزاب والحكومة واصبح الكل ثائر في وجه المكون المدني.
ولعل السؤال المهم جدا للشارع الرافض للاحزاب، (بالرغم من بعض الأخطاء التي صاحبت عمل المدنيين في الحكومة، لماذا لم يقتلوا ولم ينهبوا؟).
واتفق مع القائل أن فلول الانقاذ وعسكره وبعض اصحاب الاجندة، يريدون ان يصبح الشارع بلا قيادة وبلا رؤية برغم المجهود الكبير الذي تقوم به لجان المقاومة والعمل الجبار وتضحية الشعب للوصول للمدنية المنشودة، ونجاح لجان المقاومة في التنظيم والقدرة على زلزلة أركان العكسر لا يعني أن ذلك هو غاية النجاح بل هو خطوة أولى في سبيل الحرية، و‏لولا التنمر على الأحزاب ومحاولة عزلها في موكب 19 ديسمبر لما كان انتهى على ما انتهى عليه.
قيادة الدول لا تسند للمستقلين بل للسياسيين والرؤى السياسية والبرامج هي التي تحكم لا الحماسة والثورية وحدها ويجب أن يعي ويعرف كل شخص ما دوره في عملية البناء.
ولن يتم ذلك إلا بالوحدة ونبذ الفرقة ووضع السودان في المقدمة.
الجريدة