الجديد في إعادة تكرار طرح السيد وزير المالية لقناعاته، التي تتلخص في وصفة صندوق النقد الدولي، التي درج على التبشير بها منذ لحظة قدومه إلى السودان، أنها تأتي هذه المرة في سياق انتهاز الظروف التي فرضتها تدابير مواجهة جائحة كورونا، بالرضوخ، كما كان يفعل وزراء النظام السابق، لمطلوبات صندوق النقد الدولي، وضغوطات الرأسمالية الطفيلية، والتي بات يعلمها القاصي والداني، والتي لم تقدم حلولاً للأزمات، في السودان أو غيره، بل فاقمتها. وتقاصرت قامتها عن بلوغ سقف الأهداف التي يجدد الوزير طرحها كمقبلات لإعادة تسويقها.
لا شك أن إصرار السيد الوزير على التمسك بها، وانتهازه للظروف التي تمر بها البلاد حالياً، يؤكد أنه لا يتبنى رؤية اقتصادية لحل المشكل الاقتصادي، وإنما يضع توجهاته كمعادل موضوعي للانتفاضة وتطلعاتها الشعبية، ويقدم قناعاته الفكرية والسياسية، المتعصبة لها، وكأنها منزل سماوي، وذلك على الرغم من كونها غير متفق عليها، إنما المتفق عليه هو تأجيلها لحين انعقاد المؤتمر الاقتصادي، كما تم في اجتماع 28 ديسمبر الماضي بين مجلس الوزراء والمجلس القيادي لقوى الحرية والتغيير.
المفارقة الواضحة أن السيد وزير المالية ظل يردد جملة من الأرقام من نسج حسابات الذين كانوا يدبجون موازنات النظام السابق. وللتدليل على ذلك، لفتنا الأنظار إبان المناقشات الأولية للموازنة، إلى أن هنالك خفض متعمد للإيرادات بشقيها المحلي والأجنبي، وتضخيم للانفاق لدرجة تضمين الموازنة وحدات تم حلها أو إلغاؤها أو تجاوزتها مرحلة ما بعد سقوط النظام السابق، ومنها واجهات أمنية وسياسية وفكرية للنظام السابق تم ذكرها وحصرها. ومع ذلك ما زالت مضمنه في الموازنة، والهدف من ذلك لا يخفى على أحد.
واللافت في المسألة أن عناصر النظام السابق إلى الآن يصولون ويجولون في وزارة المالية، ويتنقلون من إدارة إلى أخرى ومن مفوضية إلى وكالة، دون اكتراث أو اهتمام للمطلب الشعبي، بتصفيتهم من المراكز والمواقع القيادية في جهاز الدولة، بدءاً بوزارة المالية. وباسترداد الأموال المنهوبة والمجنبة ومكافحة الفساد والمفسدين، ورفع كفاءة الأداء الضريبي والجمركي، وفتح حساب للكرامة لاستيعاب مبادرات السودانيين ومساهماتهم وودائعهم، والإعلان عن شركة مساهمة عامة للاستثمار في الذهب والمعادن، ومكافحة التهريب بانشاء بورصة للذهب والمحاصيل وتحفيز المغتربين، وزيادة الضرائب على شركات الإتصالات إلى 60%، وتجريد قوى الثورة المضادة من أدواتها في تخريب الاقتصاد الوطني بوقف المضاربات والاحتكار والتهريب والتزوير التي تفتك بالاقتصاد بقرار شجاع وضروري بتغيير العملة..
وهناك ما لا يحصى من بدائل واقعية وممكنة وذات عائد سريع ومتوسط المدى ستسهم في نهوض الاقتصاد الوطني، جنباً إلى جنب مع توظيف موارد استرداد العديد من المرافق والأموال التي استردت سواء من المنظومة الدفاعية أو جبل عامر أو السبيكة فضلاً عما حققته لجنة التفكيك. والمضي قدما في تصفية الاقتصاد الموازي والشركات الخاصة التابعة للقوات النظامية والامن،و تحديد كيفية ادارتها ضمن وزارة المالية.
ومع هبوط أسعار النفط إلى ما دون تكلفة النقل، بحوالي 65%، ما يزال السيد الوزير كمن (سادي دي بطينة ودي بعجينة)، لا شاغل له سوى التبشير برفع الدعم وبذات الحيثيات والأرقام.
ولم يلتقط نتائج ما يعد زلزالاً، بفعل معطيات جائحة كورونا التي خلخلت، حتى الآن، الأسس التقليدية للرأسمالية في بلدانها العتيقة، فلقد تدخل البنك المركزي الفيدرالي وضخ أموالاً فاقت ما تم في نوبة أزمة الرأسمالية في 2008، وما يزال يضخ، حتى لا ينهار النظام. واستخدم الرئيس الأمريكي، بعد تراجعه عن التصريحات التي قدم فيها المنفعة المادية على الجانب الإنساني، سلطات الطوارىء لدعم القطاع الصحي والمتضررين من إجراءات الحجر المنزلي. ووضعت هولندا الخدمات الصحية تحت ولاية الدولة التي أبعدتها (الحرية الاقتصادية المطلقة) عنها، وتلتها إيطاليا وإسبانيا، وفرنسا وألمانيا اللتين أعلنتا عن توجههما لتأميم الشركات الكبرى والقطاع الصحي.
وعليه فان تصريحات السيد وزير المالية الأخيرة تأتي، إضافةً لما سبق، خارج نطاق تاريخ تطور الرأسمالية وتراجعها، كما تأتي منزوعة عن البعد الإنساني، جراء ما يترتب على تحرير أسعار السلع وتعويم الجنيه، بعد انتفاضة شعبنا العظيمة، التي كان البعد الاقتصادي العامل الحاسم فيها، لكي يبقى (الإنسان أولاً) كما جاء في أيقونة شعار المؤتمر الاقتصادي القومي.
يتحتم على الدولة أن تعود لوظيفتها الاقتصادية والاجتماعية، وأن تكون شريكاً في العملية الاقتصادية والاجتماعية من خلال التحكم في تعدد وتوازن القطاعات (القطاع العام، والقطاع التعاوني، والقطاع الخاص)… مع التأكيد على أن السودان لا يعاني من نقص أو محدودية في الموارد، وأن الموازنة لا تنقصها مصادر التمويل الذاتي الحقيقية، وأن التلويح بتوظيف الظروف، لفرض سياسات التحرير الاقتصادي والتبعية، لا يعبر عن تطلعات الشعب التي فجر في سبيلها أميز انتفاضاته. وهي لا تقدم أي حل للأزمة، ولا تفي بالوعود البراقة التي تُسَوَّق لتمريرها، حيناً بالتباكي على الفقراء الذين زادوا عدداً وفقراً بمجرد تداعيات التبشير بها، وحيناً بزيادات في المرتبات، التي لن تشبع غول الغلاء الذي سيبتلعها وكل المدخرات.اضافة الي تاثيراتها علي تكلفة الانتاج والنقل، وهي في النهاية إجراءات غير متفق عليها، وتقدح في مصداقية اتفاق 28 ديسمبر، وتطرح السؤال، هل تصميم الوزير وعصبيته لها مجرد اجتهاد شخصي؟ أم توجه غير معلن، يسعى لخلق ظرفٍ مؤاتٍ ليُفرَض كأمر واقع؟
من الأوفق والصحيح إذا تأجل المؤتمر الاقتصادي عن موعد انعقاده، الدعوة للتوافق على ما يستجيب للمستجدات ويتغلب عليها بحلول وطنية تحشد لها مقدرات البلاد، التي لا تحد وبمشاركة واسعة من أهل الشأن والشعب الذي تجاوز عطاؤه واستعداده الخيال.
والالتزام بالموازنة، كقانون مجاز، وليكون لتصريح د. حريكة مستشار رئيس الوزراء، الذي اشار فيه الي ذلك مصداقيه ايضا، والكف عن التمادي في خرق وتجاوز الميزانية، مثلما تم في تخفيض الجنيه، والاتجاه بفرض منطق الأمر الواقع، في توحيد سعر الصرف كالذي تم مع شركة الفاخر في الذهب ب 95.6، وفي المحروقات ب 106، وترك الحبل على الجرار. علما بان اي تعديل للموازنة لا يتم الا بتشريع وللطوارئ قواعد وسلطات حددتها الوثيقة الدستورية.
وفي المنتهي لا يصح إلا الصحيح.

التعليقات