المهدية قامت على رؤية متجددة للإسلام غير مسبوقة منذ عهد الخلافة الراشدة، وحدت السودانيين وعلقت قلوبهم بقيم السماء، فلا خوف الا من الله، والزهد في الدنيا والتعلق بالآخرة والمؤاخاة والحب الصادق في الله، وعدم التنابذ بالألقاب، وإسقاط العرق واللون وادعاء الشرف من أجل التمييز، وحب الجهاد رغبة في الشهادة والتقرب إلى الله(هل هناك دين به قيم أعظم من هذه القيم)..
جاء الحاكم التركي ومعه الأوروبيون والحملات التبشيرية، في إطار تسابق أوروبي على خيرات الشعوب بعد الثورة الصناعية الأوروبية واحتياجها للمال والمواد الخام والايدي العاملة (وفي معيتهم بعض العملاء من سودانيين وشركس ومصريين ويهود وشوام وآخرون من جنسيات متعددة، كعساكر وموظفين لخدمتهم الخاصة في المنازل والبارات والمزارع)
احتل الأتراك السودان في ١٨٢١م وحددوا هدف الاحتلال في: جمع المال والعبيد، لاستخدامهم في جيوشهم وفي بناء تركيا، وظل هاذين الهدفين اساس البقاء في السودان. وأساس كل أنشطة الحكم التركي. وكل موظف في الدولة (سواء كان رجل دين أو نادلا ساقيا للخمر، أو حارسا لبيت الحاكم او عسكري)، كلهم كانوا يخدمون الدولة المحتلة ويخدمون السيد التركي في اطار تحقيق هذين الهدفين فقط لا غير، وكل ما هو دون هذين الهدفين مجرد طلاء لتزيين الحقيقة القبيحة لا أكثر ولا أقل.
ترك الاحتلال التركي السودانيين همل، (الا القلة التي قبلت بالذلة والمسكنة واندمجت في خدمة المحتل، فرعاها وبذل لها بعض المال نظير خدمتها له في تحقيق الهدفين المعلنين). ترك الأسياد الأتراك الشعب السوداني (العبيد) نهب للجهل بالدين وبأمور الدنيا. وتركوه للمرض والحروب بين القبائل ولشرب المريسة والرقص واللهث وراء لقمة العيش وارهقوهم بدفع مال الضرائب والجبايات المفروضة والتي يجلبها لهم للأسف بعض السودانيين بقسوة بالغة.
استمر هذا الحال وحكم الأتراك السودان ستين عام، استوطن فيها الجهل والقهر والزلة والانكسار، وسط كل طبقات الشعب السوداني، (ولا يدعي أحدا انه كان سيدا حتي لنفسه فضلا عن أن يكون سيدا لأحد غيره)، إلا قلة كانت تاكل من فتات الأتراك وتنعم برفع يده عنها نظير عمالة واستخبار وخدمات منزلية وضيعة أو استخدام في إطار الهدفين المعلنين.
ضاق حال الناس في وطنهم وبين أهلهم حتى أصبح الموت أفضل اليهم من حياة هم فيها أذل من الحيوان أكرمكم الله.
وبدراسة ونظرة بسيطة خلال الستين عام من الحكم التركي العنصري، يمكن الجزم أن هناك اموال طائلة والاف الاطنان من الذهب بالإضافة إلى الآلاف من العبيد تم جلبهم وارسالهم لتركيا. وبنت بهم تركيا مدنها وقصور سلاطينها التي ترونها الان، وعمّرت بهم مزارعها، وشغّلت بهم مصانعها، وهناك تعرض السودانيون ممن جلبروا كعبيد لاصناف تقشعر لها الأبدان من القهر والتعذيب والقتل المباشر والموت تحت الاستخدام اللا أخلاقي.
وتم رمي بعضهم كالبهائم الميتة في الطرقات لتنهشه الوحوش والهوام والكلاب الضالة، أو يرعاه البعض من السكان بالمناطق التي يمرون بها وهم يسيَّرون على ارجلهم حفاة عراة في الطريق الي تركيا، والسياط تلهب أجسادهم وسلاسل الحديد تثقل أياديهم وارجلهم. ومن عاش من الذين تم رميهم بالطريق، بقي عبدا تحت خدمة اسياده الجدد من القاطنين في الطريق إلى تركيا في فلسطين والشام والأردن.
هذا كان حال السودانيين قبل المهدية، يا من تدافعون بجهل عن عهد لا ترون منه إلا ما يسوقه لكم قلم المستعمر. لوحة سرمدية من القهر والجهل والمرض والاستعباد والابتزاز والاستخدام المذل، تحت سطوة حكم الأتراك ومن كان معهم من الأوروبيين ومن شايعهم من بعض السودانيين للاسف البالغ.
هل تلك كانت حياة للشعب السوداني تستحق أن يدفاع عنها ويقف مدافعاً من أجلها اي سوداني يحترم نفسه ويستحق الاحترام من غيره؟؟؟. لكن البعض بالفعل يستحلي حياة الاستعباد والذل والهوان لأنه بلا كرامة. ومازال للأسف حفدة اؤلئك يواصلون دفاع أجدادهم. لا أعتقد أن للاستعباد جينات تورث، ولكن يقيني قد تمت صياغتهم في إطار مواقف متوهمة زرعها فيهم المحتل والمصريين بالذات لانهم مازالوا يطمعون في أرض السودان ويحلمون بانشطاره ليرثوه مجددا.
لو أن الإمام المهدي وصحابته الكرام وأنصار الله من خلفهم (وهم من كل اهل السودان)، لو أنهم نجحوا فقط في إعادة التوازن النفسي للشعب السوداني ورفعوا عنه الظلم والاحساس بالمذلة والدونية والقهر والانكسار والاستعباد، الذي استمر مسلطا عليهم ستين عاماً؛ ليس إلا، لكفاهم هذا شرفاً، ولكان كفيلا أن يدخلهم الله به أعالي الجنان إن شاء الله. ولجعلنا ذلك الدور مجبرين أخلاقيا علي إحترامهم والافتخار بهم وتعميدهم رموز وطنية خالدة يجب أن نحرص ان تحتذيها الأجيال جيلا بعد جيل، وان تدرس سيرهم في مناهج التعليم، لتملأ الأجيال بالعزة والفخر وبالانتماء لهذه الأرض وهذا الشعب..
هم من حرروا الإنسان والوطن وردعوا المحتل واذاقوه الموت والذلة والاهانة، انتقاماً لشعبهم منه ومن كل الذين كانوا يخدمونه ويساعدونه في سلوكه وافعاله. وقد سطروا أعظم الأمثلة في الشجاعة والإقدام وانتصروا على المحتل في معارك نوعية لم يشهد التاريخ لها مثيل، وأعلنوا لشعوب الأرض كلها في وقت كان العالم يرزح تحت الاستخدام البريطاني، أن هنا شعب عظيم يستحق الحياة، واثبتوا بعد عقود من الاستعباد ان السودانيين أحرار بطبعهم ولا يقبلون الانكسار..
مالكم كيف تحكمون

التعليقات