شاهدت قبل أيام الفيلم الروائي السوداني، “ستموت في العشرين”، الذي حصد عددًا من الجوائز العالمية، وأسهم، بقدر غير مسبوق، في جذب الأنظار إلى السودان، وإلى السينما السودانية. من أقوى الدلائل على جودة أي فيلم سينمائي، أن يشدَّك اليه، طيلة فترة العرض. وهذا، بالفعل، ما حدث لي مع هذا الفيلم. كما يمكن القول إن هناك عنصرًا آخر، أسهم في استغراقي في الفيلم، وهو أنني كأي سوداني، يحدوني التوق لكي أرى عملاً سينمائيًا سودانيًا ناجحا. وهذا، ربما يشبه الاستغراق في مشاهدة مباراة للفريق القومي، وهو ينافس فريق بلد آخر. لكن رغم وجود هذا العنصر، إلا أن جودة عناصر الفلم المختلفة هي التي شدت انتباهي اليه، واحتفظت به، من البداية إلى النهاية. ويمكن القول، بصورة عامة، إن أي مقارنة لهذا الفلم مع الأفلام الرواية السودانية القليلة، التي سبقته، وجرى إنتاجها في أزمنة متباعدة، سوف تؤكد أن هذا الفيلم يمثل قفزة كبيرة جدًا، في الأفلام الروائية السودانية.
اتسم هذا الفلم بلمسة شاعرية، فتحت بابًا سحريًا لولوج الحالة الشعورية، التي تمغنط الروح، وترفع من ذبذبتها. نجح هذا الفيلم في اختيار البيئة البصرية المناسبة، وبرع في تصويرها، أو ما يسمي، لدى السينمائيين بـ “السينماتوغرافي”. فالقرية، والنهر، وخط السكة الحديد، والجسر الصغير على الترعة، وأزقة القرية، ومشهد الدكان، ومنزل سالم المختلف عن منازل القرية، خلقت، في مجملها، مناخا أليفًا، ممتعًا، للعين وللذائقة الجمالية؛ المحلية، والأجنبية. كما أن تنقل الكاميرا بين بيوت القرية وبين بيت سالم، أحدث تقابلا وشدا، طبقيًا، وجيليا، أوحى بالكثير. نجح الفيلم في مجمل ما رمى إليه، رغم أنه، فيما يبدو، من أفلام الميزانية المحدودة.
هناك بعض الملاحظات النقدية التي لا تقلل من قيمة هذا العمل العظيم. منها: لو تضمن التصوير لقطة أو لقطات بانورامية، من أعلى، لتوصيف مجمل مسرح الأحداث، لكانت أضافت إلى التأثير الجمالي الكثير. هناك أيضا ضعف في التمثيل في بعض المناطق. لكن، رغم ذلك يبقى مستوى التمثيل في هذا الفيلم أفضل من كل ما عرفناه في أعمال سودانية مشابهة. ولابد من إبداء الإعجاب هنا بالممثلتين، بونا خالد، وإسلام مبارك، لأدائهما المتميز. أيضًا، عانت نصوص الحوار من بعض الضعف، ومن الابتسار، ومن قدر من الخطابية، ومن عدم ملاءمة الصياغات للسياق البيئي. كما يمكن القول إن هناك تأثرًا بمنحى خالد الصديق الفلوكلوري، في فيلم “عرس الزين”. فمحاولة كسب الذائقة الأجنبية بالفولكلور، هي واحدة من الطرق السهلة لتحقيق النجاح، لكنها تخصم من متانة المضمون. أيضا لم أستسغ الربط ذا المنحى الاستتباعي للثقافة السودانية، وجعلها بعضًا من صدى للثقافة المصرية. عكست هذا شخصية سالم وذائقته وتركه جهاز العرض لمزمل. من الملاحظات الأخرى، أن النهاية كانت مكدسة ومربكة، كما أن الموسيقى التصويرية كانت ضعيفة التأثير. مرة أخرى لا تنتقص هذه الملاحظات من عظمة هذا الفيلم، الذي أحدث قفزة في مسار السينما السودانية. حار التهنئة للمخرج أمجد أبو العلا، ولجميع طاقم الفلم على هذه المتعة المميزة. هناك الكثير مما يمكن أن يقال عن هذا الفلم المتميز، لكن هذا ما تسمح به هذه المساحة.
المقالات
التعليقات