سبق أن تحدثت عن المحليات بوصفها جهازًا إداريًّا قاعديًا في منظومة الحكم المحلي. وتحدثت عن أنها من المؤسسات التي ينبغي أن تمنحها الثورة عناية خاصة. فهي الآلية الرابطة بين الخطط الحكومية، عندما تكون هناك خططا حكومية، حقيقية، وبين الجهد الشعبي لإنزال الخطط على الأرض. وبتضافر هذين الجهدين يمارس الناس في المدن والأحياء والقرى، الديموقراطية ويتعلمون صناعة القرار، ومتابعة تنفيذه. وهو ما يتيح للجماهير تعلُّم إدارة الشؤون العامة، عن طريق التجربة. وما من ديمقراطية إلا وكانت الانتخابات البلدية مصاحبةً فيها للانتخابات العامة. أيضا قلت في مقالة سابقة أن الإنقاذ بنهجها الشمولي، جعلت من المحليات أداة للجبايات ولإحكام القبضة الأمنية على مستوى القواعد. وعبرها استخدم النظام منسوبيه لتزوير الانتخابات. بل ومنح منسوبيه فرصا واسعة للثراء الحرام.
في نهايات شهر أبريل أصدر والي الخرطوم المكلف، قرارًا بإعفاء مدراء المحليات السبع بولاية الخرطوم، وتعيين بدلاء لهم. وحسنًا فعل. فالإنقاذ أصلًا لم تضع على رأس أي محلية إلا يصبح لها يدا في استتباع جهاز الحكم المحلي للتنظيم الشمولي الحاكم. لكن، لابد من القول هنا، إن التعيين ليس هو الطريق الأمثل لخلق محليات جديدة، همها الأول والأخير خدمة المواطن. الطريق الصحيح لقلب أوضاع المحليات الإنقاذية، رأسًا على عقب، لهو الانتخابات المحلية الحرة النزيهة. لا ينبغي للحكومة الانتقالية أن تتجاهل لجان المقاومة، فهي نبض الشارع، وهي التي تعرف، بحكم التجربة الطويلة على أرض الواقع، كيف أدارت الإنقاذ هذه المحليات، وكيف زيفت بها إرادة الجماهير، وكيف أدخلتها ضمن منظومة الفساد الشامل. لذلك يصبح إشراك هذه اللجان في وضع تصور للحكم المحلي وإدارته ديمقراطيًا، من أهم مهام الفترة الانتقالية. فثورة بعظمة ثورة ديسمبر، ينبغي أن تقلب منظور التغيير النخبوي من أعلى، الذي ظل سائدًا منذ الاستقلال، لينطلق من القواعد، فيصبح من أسفل إلى أعلى.
إن القذارة التي تغرق فيها أحياء ولاية الخرطوم، والعجز الفاضح عن إزالة الأوساخ، والقبح الذي يطالعك أنى اتجهت، وصور التعدي المتزايد على الشوارع، لأكبر دليل على أن هذه المحليات قد أصابتها سنوات الإنقاذ في مقتل. فقد ظلت تعمل بأمزجة من يديرونها وليس وفقًا لضوابط، حتى أصبح عملها أقرب إلى التخريب. أما إذا نظرنا لأحوال المدارس التي تحولت إلى خرائب، والى الشوارع الرئيسية المظلمة، وإلى التصديقات العشوائية لإنشاء الورش، بل وإنشاء ما يشبه المناطق الصناعية، وسط الاحياء، لتأكد لنا أن هذه المنظومة تحتاج إلى إعادة هيكلة جذرية، والى مفاهيم جديدة، وروح جديدة، وضوابط صارمة، بل وتدريب. والآن، هذا هو الخريف يقرع الأبواب، ولم يظهر للمحليات، حتى الآن، أي تحرك، في نظافة مصارف المياه من الأوساخ والأتربة المتراكمة. إن أداء المحليات ليجعل المرء يتساءل: أين يمكن للمواطن أن يجد لها فعلاً فيه منفعة له؟

التعليقات