صباح الخير علي الوطن

الامر الذي لا يفيد نكرانه ولا يغير في واقع الحال اي شيء هو ان حمدوك شيوعي حتي النخاع، ووقوعه الظاهر تحت سطوة الشيوعي وسيره وفق توجيهات كوادره الذين يسدون علي انفاسه مسامات الأوكسجين من كثرة اعدادهم في مكتب رئيس الوزراء، لا تدع مجالا الا لليقين التام بالتزامه التنظيمي الأكيد.
وهذا العدد الكثيف من اقوي الكوادر الشيوعية حول حمدوك لا يؤكد هيمنة الشيوعي علي رئيس الوزراء فقط، وانما يؤكد ايضا اقرار الحزب بضعف شخصية رئيس الوزراء فعلاً وليس ظناً او رجماً بالغيب، وهو ذات الامر الذي جعل الحزب الشيوعي يكون اكثر حرصاً علي دعمه بأقوى كوادره واكثرها التزاما وعملاً في اطار سياسات الحزب واهدافه.
الشاهد ان حمدوك في ظل اجواء المد الثوري العارم الذي انجز ثورة ديسمبر ومازال يحرسها فقد حظي بفرص لممارسات سلطات قيادية واسعة جدا. وهي فرص في السلطات لم تتوفر لغيره من رؤساء السودان في كل العهود الديمقراطية والانتقالية السابقة، ولو كان يمتلك الشخصية القيادية القادرة علي استثمار هذا المقام، لاستطاع عمل إختراقات نوعية ومشهودة في مواجهة كافة التحديات الوطنية الموروثة والمتجددة ولأبلي فيها بلاءً يؤهله لانجاز اختراقات غير مسبوقة.

الدكتور إبراهيم البدوي لم يكن وزيراً عادياً كسائر وزراء حكومة الفترة الانتقالية. فقد جاء البدوي الي الفترة الانتقالية بوضع استثنائي. وكان اسمه يتردد بقوة مع القلائل المرشحين لرئاسة الوزراء علي قدم المساواة مع الدكتور عبدالله حمدوك. ولولا تفوق مؤهلاته الاقتصادية علي مؤهلات حمدوك، كونه عمل أستاذا جامعيا للاقتصاد وخبيرا مرموقا في اكبر المنظمات المالية الدولية، مما اقنع الدافعين نحو ترشيحه الي رئاسة مجلس الوزراء للاقتناع بأفضلية اختياره لوزارة المالية بدل رئاسة الوزراء ولكن بصلاحيات واسعة تمكنه من إعادة هيكلة المنظومة الاقتصادية الوطنية ومعالجة اختلالات الاقتصاد الكلي، كما ورد في ثنايا مشروعه المعلن للإصلاح، ولكان الأوفر حظا برئاسة الوزراء. وكان العشم ان يكون في وجوده وزيرا للمالية ان يشكل ذلك سندا لرئيس الوزراء فيعزز من نجاحات كل الوزارات، ويطلق ايادي رئيس الوزراء للتصدي الي كل الملفات المتشابكة الاخري في ظل التركة العظيمة التي ورثتها الحكومة الانتقالية من الانقاذ.
تقديم الدكتور ابراهيم البدوي للاستقالة جاء امراً متوقعا في ظل توسع سلطات رئاسة الوزراء علي ايدي كوادر الحزب الشيوعي الذين تزايدت أعدادهم في مجلس الوزراء حتي باتوا يشكلون مجلسا اخر موازي للوزراء وامتدت صلاحياتهم وتأثيراتهم الي داخل كل وزارة، وخاصة في وزارة المالية وينسب لهم السبب في اصرار البدوي مجبراً علي الاستقالة. والمرجح انهم ينطلقون في انشطتهم ضد وزير المالية من موقفين: احداهما أيديولوجي يرفض اقتصاد السوق الحر. وموقف اخر سياسي يخشي مواصلة نجاحات البدوي التي بدأت مؤشراتها، خشية ان يوسع ذلك من صلاحيات البدوي ومن قوة تأثيراته داخل الدولة، وقد اكتسب بالفعل شعبية واسعه داخل قطاع الخدمة المدنية بقراره زيادة المرتبات بشكل غير مسبوق وهو في الطريق لاكتساب المزيد من الرضي وسط القطاعات الاقل دخلاً من خلال مشروع الدعم النقدي المباشر للأسر الفقيرة ودعم صغار المنتجين ومن التزامه بتوفير الميزانيات اللازمة للتعليم الاساسي المجاني والعلاج المجاني. وقد تمكن بالفعل من توفير المال اللازم لذلك من خلال التزامات معلنة من شركاء السودان في مؤتمر برلين، هذا فضلا عما حباه به الله من شخصية متماسكة وقدرة عالية علي الاقناع بما يؤمن به.
ولو ان حمدوك يمتلك قوة الشخصية ويتمتع بالحرية والاستقلالية الكافية في تقدير شئون سلطاته وصلاحياته وما تحتاجه الدولة في ظل اوضاعها المعلومة؛ لردع تلك الاصوات التي ظلت تشير عليه بابعاد البدوي منذ مدة طويلة، ولتمكن من خلال توأمة مستحقة بينه والبدوي في تلبية اشواق الشارع واحداث التغيير المنتظر، ولوجه قراراته الي حيث مكامن الضعف الحقيقي بالحكومة، ولكان أكثر حرصاً علي بقاء واستمرار وزير المالية، لأنه الوزير الأقرب اليه بلغته الاقتصادية وشريكه الافضل والاصدق والاكثر وعياً بواجباتهما، خاصة في اطار خطط جذب الدعم المالي والسياسي الدولي. ولكونه الضامن لدي اغلب الدول والمنظمات المالية للايفاء بما وعدت به بناءً علي ما قدمه لهم من برنامج اقتصادي مقنع. ولكن يبدو ان حمدوك قد تمكن منه العجز التام وقرر أن يسيِّر الدولة بواسطة المستشارين في مجلس الوزراء، كبديل لكل الوزراء، ولذلك وافق علي إبعاد أقوى الوزراء واكثرهم وعيا بمهمته، حتي يتمكن المستشارون من التحرك بلا قيود، لينسجوا تفاصيل الخطة المرسومة لهم من خارج مجلس الوزراء.
للأسف ولسوء حظ الوطن فان ضعف شخصية حمدوك سيمضي بالوطن وبثبات نحو فشل محقق لا محالةمما سيزيد المشهد المتشابك تعقيداً.
كل قرار واتفاق مع الحركات المسلحة لا يتم اتخاذه والموافقة عليه الا بعد موافقة رئيس الوزراء، ولضعفه وتردده فقد أدخل مفاوضات السلام في الجرجرة والمتطاولات والتعقيد، وجعل الاتفاق عبئ كبير علي ميزانية الدولة، ومكن بعض الحركات من غير ذات الوزن داخل الدولة بما لا تستحقه مما عجزت عن تحقيقه بالبندقية.
لقد توفر لحمدوك ما لم يتوفر لغيره من قبل من الفرص، حتي في ظل اكثر الحكومات العسكرية توسعا للسلطات. وظل يحكم بصلاحيات مفتوحه يقدرها هو كيفما يشاء، وبقبول من الشارع بلا قيد وبلا وجود لأي معارضة داخل الحكومة او في الشارع. وظل يحكم منذ تشكيل الحكومة والي الآن بإرادة ثورية ومن دون اي دستور الي الان.
مجمل القول ان توالي الاحداث اكد ان هذا الرجل لا يصلح لهذا الموقع وأخشي ما اخشي ان يضطر للهروب عاجلاً بعد ان يورط الوطن في استحقاقات كبيرة ويكبلها بالتزامات سياسية ومالية تعيق سرعة انطلاقها.

اما قول البعض ان البدوي قد فشل. فهذا القول مردود ويظل رأيا تقريريا لا تسنده الشواهد. وكان يمكن ان يكون قولا مقبولا لو ان القرار استند علي اساس وتقييم موضوعي لفشل الوزير في اداء واجبات وزارته، لكن الظاهر ان القرار صدر لان الوزير قد نجح بالفعل.
والامر المؤكد ان القرار لا علاقة له بالفشل والنجاح، لان البدوي في الحقيقة لم يفشل. كما ان العبور باي اقتصاد محطم كالاقتصاد السوداني هي مسالة معقدة وتتم عبر مراحل وليس بضربة لازب. والبدوي نجح في تحقيق اختراقات واضحة في عدد كبير من الملفات الاقتصادية المعقدة. كما انه يقف علي رؤية متكاملة للإصلاح الاقتصادي ظل يعمل في اطارها بوعي وادراك وثبات الأبطال.
الواضح جداً ان اليساريين في جميع مدارسهم ظلوا يتوجسون من فرص نجاح البدوي في مهمته الاستثنائية، ولذلك ظلوا يضغطون علي رئيس الوزراء من اجل ايقاف البدوي قبل اكمال مشروعه الناجح، وينطلقون في ذلك برؤي اقتصادية ايدلوجية لا علاقة لها بالإصلاح الاقتصادي، ويخشون من نجاح البدوي، لان في نجاحه ضرب لاساس الفكرة.
ولو ان الفشل هو السبب لتغيير الوزراء لكان وزير الصناعة والتجارة المدني هو الأحق بالإقالة لأنه فشل في فتح قنوات التوزيع للدقيق والغاز لعشرة اشهر وبعد ان وفرت له وزارة المالية الميزانيات اللازمة.
أقول لكل من يحلم بعالم جديد دون ان يتجشم ثمن تضحياته، ان الدكتور البدوي في الطريق للذهاب ورأسه عالي. ذهب وترككم امام المحك، وستفشلون وتخرسون للابد. وسيبقي الدكتور البدوي مدخوراً لمستقبل الوطن ان شاء الله، والذي سيبقي منتظرا عودته الظافرة محمولا علي ارادة غلَّابه وعصيَّة علي المساومة. ارادة تعجز عن نيلها هذه القوي السياسية البائسة والتي تتناهش وطن لم تتركه الانقاذ الا جيفة..
حمدوك في ظل ضعف شخصيته فانه يخضع للضغوطات بلا ادني امانة اخلاقية. وقد تامر علي اخراج البدوي برغم اتفاقه معه مائة بالمائة حول كل خطته ومنهجه الاقتصادي، وهو يعلم ان البدوي انجز الكثير جدا في كل الملفات، وتجاوز بالوطن الكثير من المطبات، وعالج الكثير من الخلل البنيوي فى الاقتصاد السوداني، وهيئ الاقتصاد الوطني للانطلاق رويدا رويدا. وحمدوك يعلم ان تعافي اقتصاد محطم كالاقتصاد السوداني ليس امرا سهلا، ويتطلب تضحيات من كل الشعب، ويحتاج وقت ورؤية متكاملة يعتبر البدوي هو افضل من يقوم عليها.
والبدوي نفسه يعلم ان مقومات التعافي الاقتصادي تحتاج فيما تحتاج التفهم والالتزام والدفاع الكامل والقوي من رئاسة الوزراء وتشترط لنجاحها فيما تشترط، تكامل الدعم الخارجي في شكل قروض ومنح مقدرة، وتحتاج ايضا توفر قدر عالي من الثقة المتبادلة فيما بين الدولة و المنظمات المالية الدولية ومع كل دول العالم خاصة التي ترتبط مع السودان بعلاقات اقتصادية خاصة.
تعافي الاقتصاد السوداني يحتاج سياسات خارجية تؤسس لعلاقات دولية متوازنة وقائمة علي المصالح المشتركة بعيدا عن اي استقطاب. ولذلك كان البدوي يقود سياسة مالية خارجية ممتازة وناجحة مستثمرا كل علاقاته الدولية، برغم التشويش الذي نشط فيه الشيوعي ونجح بالفعل في تنفير الخليجيين من خلال تصريحات واساءات مباشرة، جعلت دول الخليج تحجم وتبتعد عن مواصلة الدعم الذي بدأته بعيد انتصار الثورة وقبل بداية الفترة الانتقالية، مما ادي الي حرمان السودان من دعم كبير وغير مشروط. ويخشي ان ينتهي ذلك الي عرقلة استيراد اللحوم والماشية السودانية، خاصة في ظل قرار المملكة تقليل اعداد الحجاج لهذا العام ومنع الحجاج من خارج المملكة، مما يقلل من اعداد المواشي المستوردة كل عام قبيل موسم الحج.
كل الدلائل تؤكد أن حمدوك قائد فاشل لم يستفيد من الدعم غير المسبوق الذي يتمتع به من كل الشارع وكل القوي السياسية. ومازال عاجزاً عن الاستفادة من ذلك في وضع الاسس السليمة للنهضة الوطنية الشاملة والمأمولة، وفي مواجهة التحديات بجسارة القادة وتتطلب مواجهة الشعب بالحقائق ليتحمل الاثار الجانبية المتوقعة في الطريق نحو النقلة النوعية.
كل المؤشرات تؤكد ان حمدوك سيورط الوطن في التزامات كبيرة وسيهرب تحت انقلاب الشارع عليه في وقت قريب جدا في ظل اتخاذه بكامل ارادته عزل من كان يحمل عنه كل عبئ معاش الناس. انه يفتقد لحس القائد الذي يستطيع تحديد الاولويات ويستفيد من اقل الفرص المتاحة..

التعليقات