(1)
“لقد غير سد النهضة التاريخ والجغرافية السياسية للمنطقة” هذه الكلمات القليلة لوزير الخارجية الإثيوبي جيدو أندارغاشيو بالأمس، تحسم جدلاً إقليمياً طال حول طبيعة المشروع الأكثر إثارة للصراع في تاريخ هذه المنطقة، فهذا التصريح يكشف بوضوح أن الهدف الحقيقي من هذا المشروع أبعد من كونه مجرد سد لإنتاج الكهرباء بغرض خدمة أجندة التنمية الإثيوبية، إلى أداة سياسية بامتياز لفرض معطيات استراتيجية جديدة تعيد تشكيل المعادلات الجيوسياسية وتوازنات القوة في المنطقة، وترسم دوراً جديداً يضمن لأديس أبابا وزناً وهيمنة إقليمية بامتدادات تأثيراتها القارية والدولية، عبر استخدام السد كوسيلة ضغط لتحقيق هيمنة مائية تخضع مصر والسودان لقواعد لعبة جديدة.
(2)
يأتي هذا الإعلان الإثيوبي بهذا الوضوح للمرة الأولى مؤكداً الطبيعة الجيوسياسية لمشروع السد ليعزز تحليلات سبق أن أشرنا إليها مراراً في عدد من مقالاتنا في سنوات ماضية، من بينها مقال منشور بتاريخ 3 نوفمبر الماضي ورد فيه ” أن سد النهضة ليس مجرد مشروع فني لتوليد الكهرباء، كما أنه ليس مجرد وسيلة لتمكين إثيوبيا من تحقيق مشروعها النهضوي التنموي، بل أبعد من ذلك فهو أداة بالغة الأهمية في يد إثيوبيا من شأنها أن تعيد تشكيل التوازنات الجيو – استراتيجية في المنطقة وتعيد ترتيب حساباتها على نحو يعظّم دورها الإقليمي والقاري، من خلال تمكنها من السيطرة على أسباب الحياة للدول الشريكة في حوض النيل الشرقي”.
(3)
وهذا ما يفسر دوران جولات التفاوض على مدار السنوات التسع الماضية في حلقة مفرغة، ليس بسبب استحالة التوصل لاتفاق حول قضايا ذات طابع تقني يصعب التفاهم حولها، بل بالعكس فمن المفترض أن طبيعتها العلمية تجعل إمكانية الاتفاق أدعى باعتبارات عقلانية وموضوعية ، لكن لأن جوهر الصراع في حقيقته ليس فنياً، بل سياسياً بامتياز لارتباطه بحسابات استراتيجية في الأجندة الإثيوبية لصناعة مجال نفوذ حيوي جديد، لذلك وظّفت كل طاقاتها في فرض سياسة الأمر الواقع كهدف في حد ذاته كرافعة لتغيير معادلات وتوازنات القوة الراهنة في دول حوض النيل الشرقي لخدمة مصالحها الوطنية.
(4)
هذا التوجه في العقل الجيو- استراتيجي الإثيوبي والتطلع للعب دور خارجي مؤثر ليس وليد تطورات اليوم، بل مستمد من الإرث التاريخي للدولة الإثيوبية لا سيما في تجليها الامبراطوري، فضلاً عن تعاظم الإحساس العميق بمظلومية حرمانها من الاستفادة من كونها منبع النيل الأزرق في وقت تتقاسمه مصر والسودان باتفاقية 1959، وهي مسألة ظلت تشكل هاجساً حاضراً في أجندة القادة السياسيين.
ففي لقاء صحافي مع الرئيس الإرتري أسياس أفورقي بأسمرا في مايو 2013، سألته عن رؤيته للصراع الإقليمي الذي أطلقه الإعلان عن تشييد سد النهضة، وروى أنه في العام 1993 إبان قمة إفريقية في القاهرة نقل له الرئيس الراحل ملس زيناوي نيته فتح موضوع شكوى إثيوبيا بشأن مياه النيل مع القادة المصريين، وقال نصحته بألا يفعل لأن التوقيت غير مناسب في وقت لا يزالان يعملان كحليفين على تثبيت سلطتيهما، لم يأخذ زيناوي بنصيحته ويبدو أنه تلقى رد فعل مصري غاضب على إثارة القضية اعتبره إهانة له، وقال أفورقي إن زيناوي بعد أن أبلغه بالواقعة أكد له أن إثيوبيا ستحذو يوماً حذو تركيا التي فرضت هيمنتها المائية ببناء سد أتاتورك في نهر الفرات على حساب العراق وسوريا.
(5)
لقد جاء الإعلان الإثيوبي الرسمي أخيراً في تعريف سد النهضة كأداة لـ”تغيير قواعد اللعبة” في الحسابات الجيوسياسية للإقليم، ومع إصرارها بعدم التقيد بأي التزام قانوني، لينهي عملياً حقبة التفاوض حول السد كمسألة فنية، ذلك التفاوض الذي أهدر فيه السودان ومصر زمناً وجهداً، لتأتي ساعة الحقيقة أن المسكوت عنه في التفاوض هو السبب الحقيقي للدوران في حلقة مفرغة، وقد نجحت استراتيجية إثيوبيا في فرض الأمر الواقع، لم يعد هناك معنى لمواصلة مفاوضات غير منتجة، لقد حان وقت التفاوض حول الأجندة الحقيقية المتعلقة بإعادة رسم خارطة توازنات جيوسياسية جديدة، وهو ما يجعل ما تبقى من قضايا فنية وقانونية جزءًا من كل في حساب توازنات المصالح الوطنية.
لقد أحسن رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك بتشكيل لجنة عليا برئاسته لمتابعة ملف التفاوض لـ “تعزيز مصالح السودان الاستراتيجية”، وهي خطوة مهمة ولازمة بلا شك، وإن جاءت متأخرة، فما هي فرصها؟
المقالات
التعليقات