حال الوطن حيث تمسك بتلابيبه المشاكل ويسيطر عليه العجز والفشل التام وهو بلا ارادة كالفريسة بين افكاك ومخالب السباع. انهيار في مقومات السيادة وضعف بيِّن في مظاهر التصدي الفعَّال لهموم المواطن وعجز تام عن ردع الفتن ما ظهر منها وما بطن. وغياب تام لهيبة السلطة وسطوتها.
في ظل هذه الحكومة اضحي الوطن العزيز ضعيفاً، تتحكم فيه المصائب وتتفجر به المشاكل كل ساعة، وتشده من أطرافه السيناريوهات الاقليمية والدولية، وتتزايد علي ارضه وثرواته الاطماع الاقليمية، التي وجدت في خاصرته (الحكومة الانتقالية) ضالتها ومراتعها، فأكلت اللحم، والآن تنهش في العظم وتخلع في المفاصل.
أكبر خطأ تاريخي ستسأل عنه قوي الثورة هو وقوع اختيارها علي الدكتور عبدالله حمدوك ليكون رئيس وزراء للحكومة الانتقالية، وبالتالي وكيلاً مفوضاً بلا حدود علي تنفيذ كل شعارات الثورة، وكل آمال الشعب، الذي ثار وخرج كما لم يخرج من قبل!!!، في مفارقة واسعة جداً بين المأمول من رئيس وزراء حكومة الثورة وبين مؤهلات من أُوكلت إليه المهمة!!!. المد الثوري الوطني الذي أحدث ثورة ديسمبر هو مد نوعي وكمي غير مسبوق في تاريخ السودان إلا إبان الثورة المهدية.
كان خطأً جسيماً أن توكل مهام الثورة الجسام وكل الاهداف الثورية النبيلة وكل آمال الشعب الصامد الصابر الي شخص من خارج البيئة الثورية التي ادارت العملية الثورية (the revolutionary process). شخص لا يعلم الشارع عنه شيء قبل ان يختاره المخلوع وزيرا للمالية ويقبل هو المنصب ويستلم تذكرة الطائرة الي الخرطوم، ثم يعتذر قبل ساعات من إقلاع الطائرة ووفود الاستقبال تنتظره بالمطار. وكان الخطأ الآخر عندما قام وكلاء الثوار في قوي إعلان الحرية والتغيير بالنص علي وضع مسئولية تنفيذ كل اهداف الثورة وكل ما تم النص عليه بوثيقة الحرية والتغيير ومن خلفها كل الآمال العريضة في الشارع علي عاتق رجل طيب، ليس اكثر من موظف بسيط، كل ما في جعبته من نضال انه طرد من وطنه في اول ايام الانقاذ مع الالاف من السودانيين في لحظات جنون من نظام خارج التاريخ، ولم يسمع بخروجه احد غير اصدقائه المقربين ربما. ثم وجد له وظيفة كعشرات الاخرين من السودانيين بالأمم المتحدة، وترقي في وظيفته بطول المدة وقلة الجراءة وليس لكثرة الانجازات والتميز الوظيفي، تماماً كما يقول المثل المصري (تعمل كثير تغلط كتير ما تعملش ما تغلطش وتترقي).
أعتقد جازما ان الدكتور حمدوك لم يكن أصلاً يدرك جسامة المهام التي تنتظره ولا حجم الآمال المعقودة عليه. ولو كان علي حال يمكنه من معرفة وإدراك ذلك ولو بنسبة تقل عن العشرة بالمائة، لما تواني في رفض هذا الموقع الخطير، الذي كشف قلة حيلته وبؤس حاله. فطبيعة الدكتور حمدوك لا تناسب العمل الثوري، فهو شخصٌ بارد وفاتر ومنكسر، والثورة هي غليان البراكين، كما وصفها الشاعر والأديب الفذ عالم عباس في قصيدته الهادرة. لقد عز الطالب والمطلوب.
كان علي ممثلي قوي إعلان الحرية والتغيير ان يعلموا أن الثورة ليس فعلاً سهلاً وميسوراً ويمكن تكراره في كل لحظة أو عند اللزوم. وإنما هي فعل عميق ومعقد وأنها جذوة تتراكم وجنين يتخلق في رحم الغيب فيكبر ويصغر حسب الظروف، وربما تكبر الثورة مرة أخرى ويزداد اشتعالها أو يخفت وفق شروط وأسباب عديدة لا تتوفر في كل الأوقات. هي كالروح تسري في الأجساد الميتة فتحييها وتمنحها القوة والارادة الجبارة للاندفاع وانجاز ما لا يمكن توقعه بقوانين الواقع. وهي حبل سري لا تراه العيون يجمع كل الناس علي اختلاف مشاربهم ويوحد امالهم وخطابهم ويحدد اهدافهم ويقودهم الي الانجازات التاريخية.
كان خطأً عظيماً لا يغتفر أن تختار قوي الثورة شخص من خارج البيئة الثورية التي أنتجت الثورة واشتغلت من أجلها لسنين الي أن إنطلقت، ثم قادت الشوارع وواجهت النظام ودفعت الأثمان الكبيرة حتي انتصرت. قيمة حمدوك بميزان الثورة الدقيق لا تساوي أكثر من العشم العظيم الذي خاب فيه كقائد لأهم مرحلة في تاريخ السودان.
تجربة حمدوك في الحكم أثناء العام المنصرم أثبتت بما لا يدع مجالاً لأي شك أن قوي الثورة قد أخطأت خطأً فادحاً، عندما لم تختار واحداً من بين الثوار الذين حملوا أرواحهم علي أياديهم وقادوا الشوارع ودخلوا سجون النظام ودفعوا الغالي والنفيس الي أن انطلقت الثورة وانتصرت وتحقق التغيير. وأخطأت قوي الثورة مرة ثانية عندما ظنت أن الشوارع وحدها قادرة علي حراسة الدولة وعلي ردع أعداء الحرية واعداء اهداف الثورة، واخطأت عندما ظنت أن المطلوب من رئيس الحكومة ليس اكثر من التفرغ لقيادة العمل اليومي في مجلس الوزراء كموظف ناجح يعمل علي تطبيق الخطط المرسومة له من قبل الحاضنة الثورية ولم تنص علي الزامه بضرورة بمراجعتها في كل امر جلل. واخطأت خطأ جسيما عندما تركت واجباتها في تصحيح مسار الحكم وفي ضبط ايقاع رئيس الوزراء وتركته لشلة تستثمر في ضعفه وتستغل اسمه لصالح مشروعها السياسي. واخطأت ايضا عندما انشغلت بالحروب البينية.
الدكتور حمدوك رجل بطبعه بارد ومنكسر، وقد ادي ذلك الي قتل الثورة، وصب عليها ماءً بارداً كثيرا جداً، حتي انطفأت تماماً وماتت في نفوس الناس وكادت ان تتلاشي في الشوارع وبين الازقة، في ظل سكونه الدائم وغياب سطوته واستسلامه ولا مبالاته، واحياناً كذبه عندما قبل الاعلان عن تعرضه للاغتيال ليغضي عجزه وفسله وكان الاولي به الاعتراف والاستقالة. أما فشله الاساسي فقد تمثل في اهم مهامه كخبير اقتصادي. الشيء الذي انعكس علي معاش الناس، فطمأن ذلك ازلام النظام القديم ومعاونيه داخل وخارج الوطن، ليعودوا من جديد، يشعلون نيران الفتن، معتمدين علي المال والكم الهائل من المعلومات وعلي اياديهم التي مازالت تتحكم بالدولة، من الذين وظفوهم خلال الثلاثين عام من حكمهم. وأغراهم ضعف الرجل وعدم الالمام بأصول الحكم وغياب الرؤية الكلية للدولة وفتح امامهم المجال امامهم واسعاً ليخترقوا الوطن من كل صوب وحدب، ويحيلوه لميدان تتصارع فيه الإرادات الدولية التي تتصارع من اجل تشكيل الاقليم، وقد نشطت في توظيف بعض الفاعلين بالمشهد الوطني في اطار اجندتها تلك.
للأسف يمكن القول ان السودان الان قد أصبح سوقاً مفتوحاً لعرض وبيع الولاءات ولاستئجار ابنائه جنوداً لصالح السيناريوهات المتصارعة بالمنطقة. كما ان لكل دول الجوار الآن تدخلات مرصودة في الشأن الوطني الداخلي وشواهد عبثها بالشأن الوطني شاهدة من خلال ولاءات تستخدمها في تنفيذ نفوذها داخل السودان. ومن اهم اهداف دول الاقليم تأتي مهمة افشال تجربة الثورة العظيمة التي يشارك فيها كل الشعب وتؤدي الي قيام نظام ديمقراطي ناجح ومستقر ومؤهل في التصدي للتحديات الاقتصادية والامنية وقادر في المحافظة علي سيادة الدولة وفي.
اي محاولة نحو تصحيح المشهد الايل للسقوط يجب ان تنظر للمشهد بشكل كامل وتعمل علي اصلاحه بشكل جذري ولا تجنح للترقيع. واول الخطوات المطلوبة يجب ان تستهدف اصلاح الحاضنة السياسية (قحت)، واقالة الحكومة واستبدال حمدوك برئيس وزراء من داخل الحاضنة السياسية، ثم مراجعة وثيقة اعلان الحرية والتغيير وفتحها لكل القوي الثورية وتنظيمها وفق هيكلة تحدد مستوياتها ومهام كل مستوي فيها كما يجب ان ينظمها دستور ولوائح وليس تقديرات مؤقتة تؤدي لاستعار الخلافات بين المكونات. ولابد من مراجعة وثيقة الحكومة الانتقالية وتعديلها ولابد من تشكيل مجلس تشريعي عاجلاً وباي عدد، ولابد من تحديد أولويات امام الحكومة عاجلة ومتوسطة وطويلة الامد. ومن ضمن اهم الاولويات محاكمة كل رموز النظام القديم ووضع يد الدولة علي كل الاموال والشركات وكل املاك رموز النظام والحزب المندحران. كما يجب ان تعلن تلك القرارات في اول جلسة لمجلس الوزراء بواسطة رئيس الوزراء الجديد بعد اقالة حمدوك ويبدأ تنفذها فوراً.
اي تلكؤ في الذهاب الفوري نحو خطوات تصحيح مسار الثورة والحكومة سيؤدي الي تعقيد المشهد أكثر، واي خطوة جديدة تتجاوز هذه الاهداف كلها مجتمعة لن تعيد المد الثوري الي قنواته السابقة ولن تجدي في اعادة التوازن للدولة التي تترنح وتفقد القدرة علي التماسك، وسيتواصل انهيار الروح الثورية الي ان تتآكل وسيبتعد المواطن عن دعم نظام يعجز ان يوفر له الامن فضلا عن المأكل والمشرب وابسط الخدمات، وسيعود العسكر من جديد.
التعليقات