الذي يتأمل السنة التي انصرمت من عمر الفترة الانتقالية يلاحظ أمرين رئيسيين، أولهما: توالي الاضطرابات الأمنية بكثافة وانتشارها على نطاق واسع من البلاد. أما الثاني فهو استعصاء إنهاء حالة الندرة في السلع الاستراتيجية. فطوابير السيارات لا تزال مصطفة أمام محطات الوقود، وغاز الطهي لا يزال معضلة، وطوابير الخبز كما هي. يضاف إلى ذلك هناك تسارع في ارتفاع الأسعار لا يتناسب مع ما حدث لسعر الجنيه السوداني. فلو انخفض سعر الجنيه مقابل الدولار 200٪ في الأشهر القليلة الماضية، فإن بعض السلع والخدمات ارتفعت بمعدل 300٪، بل ويزيد. بدا واضحًا أن هناك عملاً مدروسًا ومنظمًا لإفشال الفترة الانتقالية، عبر زعزعة الأمن وخلق ندرة في السلع. ويبدو أن الجهات التي تقف وراء هذا المخطط اللئيم تريد أن تقول للشعب: إذا أردت أن تكون آمنا على نفسك وعرضك ومالك، وأن تجد ما يسكت جوع بطنك؛ أنت وأهلك، فعليك أن تقبل بعودة نظام الفساد والاستبداد، وإلا سنجعل حياتك تنتقل من جحيم شديد إلى جحيم أشد. وهذا شبيه بقول الأسد وجلاوزته للشعب السوري في بداية ثورته: “يا نحكمكم يا نقتلكم”.
إن المرء ليعجب أن يكون هناك أناس بهذا القدر من سوء الطوية وموت الضمير بحيث لا يهمهم أن يصلوا إلى كرسي السلطة سيرًا فوق جثث الضحايا وعبر عدم اكتراث تام بآلام وأنات المحرومين من الجوعى والمرضى والمشردين عن ديارهم. ومن الغريب أن يعتقد هذا النفر في قرارة أنفسهم أنهم حين يصلون إلى السلطة سوف يصلحون. فالوسيلة من جنس الغاية، ولا يمكن أبدًا التوسل للغايات الصحائح بالوسائل المِراض. فالغاية النبيلة لا توصل إليها الوسيلة المنحرفة. لقد سبق أن قلت إن ثورة ديسمبر 2018 ثورة أخلاق في المقام الأول. هي ثورة ضد التدليس باسم الدين وضد إفقار الناس باحتكار القلة للموارد ولسلطة القرار. وهي ثورة ضد الكذب والتضليل وإلباس الباطل ثوب الحق. وهي بهذا المعنى ثورة مكتوب لها النصر مهما طال المسير ووعر الدرب وعظمت التضحيات.
حملة الأقلام الذين لا يستحقون شرف حملها، ممن قرعوا الطبول ونفخوا المزامير في زفة الفساد والاستبداد على مدى ثلاثين عاما لقاء الفتات، لم يتوبوا من ضلالهم القديم. فقد تواترت مقالاتهم تباعًا تحث الجيش على إنهاء الفترة الانتقالية، مدعين حرصًا مخاتلاً على أهداف الثورة. فهم إما أن يكونوا قد عرفوا أن الشعب قد ركلهم بصورة نهائية فلم يبق لديهم أمل سوى أن يأتي مستبدٌ جديد إلى الحكم. وإما أنهم يعيشون حالة إنكار فظيعة من هول الصدمة، وصلت بهم حد التوهم أن الثورة لم تحدث أصلا. هذه الفترة الانتقالية بكل عللها تقوم على وثيقة دستورية، مهما تكن عيوبها فإن الشراكة الحاكمة من مدنيين وعسكريين قد ارتضتها ومن ورائهم الشعب. ومن وراء كل هؤلاء المجتمع الإقليمي والدولي. من يقرأ التغيرات في المشهد السياسي الدولي يرى بوضوح أن الولايات المتحدة قد أخذت تنتبه إلى السودان. كما يمكن أن يرى أن الأحلاف الإقليمية المتصارعة في المنطقة تفقد قوة دفعها. هذا الوضع يتيح للسودان الخروج إلى عهد جديد بذاتية مستقلة. يضاف إلى ذلك، أن الشارع لا يزال يحمي ثورته من عبث الجميع؛ بما في ذلك الشراكة الحاكمة والحاضنة السياسية. فالكلمة ستكون في نهاية المطاف للشعب، ولن تكون هناك كلمة لغيره.
المقالات
التعليقات