يؤكد التاريخ والجغرافيا أن ما يربط بين السودان ومصر من علاقات ووشائج ومصالح مشتركة ووحدة في المسار والمصير هو رباط أزلي غير قابل للانفصام. وهنا يكمن سر الوصفة السحرية لعمق العلاقات، وأزلية الروابط التاريخية المشتركة، بين شعبي وادي النيل في شمال وجنوب الوادي. وتبعًا لطبيعة النظام الحاكم في كل من الخرطوم والقاهرة وسياسته الداخلية والخارجية، وكيفية صياغته لمواقفه ورؤاه وتحالفاته الإقليمية والدولية، تمر العلاقات بين السودان ومصر بحالات المد والجزر والصعود والهبوط ولكن نظرا لانها علاقات عضوية وذات خصوصية فإنها تمرض ولكنها لا تموت.
لقد ظل الشأن السوداني في مقدمة شواغل السياسة المصرية في كل العهود والحقب، وذلك أمر غير مستغرب، نظرا لان استقرار السودان يدعم ويعزز استقرار مصر. بالإضافة الي ان كلاهما يؤثر ويتأثر بما يحدث لدي الآخر بحكم الجوار ووحدة المسار والمصير. ولقد سعت مصر بعد ثورة ديسمبر المجيدة لتطوير علاقتها بالسودان من خلال قيامها بزيارات قياسية متتالية لم تحدث في تاريخ البلدين. أعطت قوة دفع هائلة وحققت طفرة كبيرة في العلاقات واعادتها الي مسارها الطبيعي بعد فترة من حالة شبه الجمود التي كانت سائدة لأسباب معروفة لدي الجميع.
ومواصلة للاهتمام المصري بالشأن السوداني تأتي اليوم هذه الزيارة التاريخية لرئيس مجلس الوزراء المصري الدكتور مصطفي مدبولي للسودان برفقة وفد عالي المستوي من السادة الوزراء فمرحبا بهم في جنوب الوادي وطنهم الثاني. وتعد هذه الزيارة الثانية لرئيس الوزراء المصري للخرطوم منذ ثورة ديسمبر. ويعتبر هذا اللقاء هو الثالث بين رئيسي الوزراء في البلدين مما يعكس تحسنا ملحوظا ونموا مضطردا في مجال العلاقات الثنائية والتعاون في الملفات المشتركة بين البلدين الشقيقين خلال الفترة الحالية.
من خلال اللقاءات الثنائية المكثفة، والزيارات المتبادلة لكبار المسؤولين في البلدين الشقيقين، دخلت العلاقات السودانية المصرية الي مربع التقارب والتعاون. حيث جاءت أول زيارة خارجية لرئيس الوزراء السوداني الدكتور عبد الله حمدوك لدولة عربية لمصر. وعليه اعتبرت مصر أن ما يجري في السودان أمرا يهمها فانخرطت في التشاور والتنسيق مع الحكومة السودانية في العديد من الملفات والقضايا الثنائية والإقليمية والدولية أفضي ذلك للوصول الي تفاهمات وحلول قائمة علي مبدأ المنفعة المشتركة وداعمة لخيارات الشعب السوداني دون التدخل في شؤونه.
هذه أول زيارة عمل رسمية لرئيس وزراء مصر للسودان على رأس وفد وزراي عالي المستوي. أتت متزامنة مع مواجهة الحكومة الانتقالية في السودان لجملة من التحديات أبرزها وأخطرها التحدي الاقتصادي وتخفيف المعاناة عن كاهل المواطنين. وبلا شك فان هذه الزيارة ستمنح الحكومة السودانية فرصة نادرة للاستفادة من التجربة المصرية في معالجة الملف الاقتصادي، فقد مرت مصر بعد ثورة يناير بظروف مشابهة لما يجري في السودان ولكنها تمكنت من العبور سريعا. عليه ينبغي على الحكومة السودانية ان تجعل أساس هذه الزيارة المحور الاقتصادي التجاري البحت، ولا تهدر الوقت وتبدده في بحث القضايا السياسية، التي لها لجنة رباعية مختصة ببحثها، مكونة من وزيري الخارجية ورئيسي جهاز المخابرات في البلدين. كما ان الاستغلال الأمثل للاستفادة من هذه الزيارة يأتي من خلال الاتفاق مع الجانب المصري علي تنفيذ مشروعات تنموية مشتركة مثل الربط الكهربائي والسكك الحديدية والاستفادة من الخبرات المصرية في مجال الإصلاح الاقتصادي.
في اعتقادي ان الزيارة الحالية لرئيس مجلس الوزراء المصري للسودان هي فرصة ذهبية على الحكومة السودانية ان تجعل منها نقطة تحول كبري في شكل العلاقات السودانية المصرية وإعادة صياغتها على أسس جديدة من تعزيز التكامل الاقتصادي والتجاري بين البلدين على مختلف الأصعدة واضعة في الاعتبار ان البلدين يمتلكان قدرات بشرية وموارد طبيعية نادرا ان تتواجد في بلدين متجاورين. وفي حالة توظيفها واستغلالها بصورة صحيحة يمكن لمصر والسودان أن يشتركا في تأمين الغذاء عبر التكامل القطاعي وتبادل الخبرات الفنية واستغلال الموارد المتاحة في الدولتين للوصول إلى الاكتفاء الذاتي من السلع الأساسية وتصديرها للأسواق العالمية. أيضا يجب الاتفاق على زيادة حجم التبادل التجاري بما يحقق رفاهية الشعبين، وإقامة تكامل اقتصادي بين الدولتين وفقا للمزايا النسبية لكل بلد.
أعلم مدي حرص السيد رئيس الوزراء المصري الدكتور مصطفي مدبولي علي تعزيز العلاقة مع السودان كما أعلم إهتمامه بتطوير المصالح الاقتصادية والتجارية بين مصر والسودان وأذكر في هذا الجانب آخر لقاء جمعني معه في مدينة أسوان برفقة نظيري وصديقي وزير النقل المصري السابق الدكتور هشام عرفات كان محور إهتمامه ضرورة إنجاز الربط السكك الحديدي بين مصر والسودان مبديا استعداده لتقديم كافة سبل الدعم المطلوبة لإنجاز هذا المشروع خلال فترة رئاسة الرئيس عبدالفتاح السيسي للاتحاد الافريقي وبكل أسف لم يتحقق الحلم وهذه فرصة مواتية للبلدين للاتفاق علي خطوات عملية وإجراءات محددة لإنجاز هذا المشروع الاستراتيجي واحياء هذا الشريان الحيوي الذي يربط مصر بالسودان ويربط البلدين بإفريقيا.
أفضل هدية يقدمها السودان للسيد رئيس وزراء مصر في ختام زيارته التاريخية للسودان واجتماعاته مع الحكومة الانتقالية هي أن نعمل علي تحقيق حلمه بأن يري المواطنين يركبون القطار السريع المكيف من الخرطوم الي القاهرة وبالعكس وان يري البضائع والسلع من الصادرات والواردات مشحونة علي القطارات في طريقها للأسواق.
hatimelsir@gmail.com
المقالات
التعليقات