(1)
لا تنتج الافتراضات الخاطئة غير الواقعية إجابات خاطئة فحسب بل تولد أيضاً أسئلة خاطئة لتطلق المزيد من الإجابات الموغلة في الخطأ بما يُعقّد المعقّد أصلاً، ولوكانت هناك ثمة كلمة واحد تصف المؤتمر الصحافي الذي تداعى له طائفة من المسؤولين في الحكومة الانتقالية ليلة الخميس المنصرم بشان طوارئ الوضع الاقتصادي، لما كانت هناك كلمة مناسبة أكثر من وصفه بأنه مؤسف، بل مؤسف للغاية، فقد تهيأ الناس لأمر جلل حين تطايرت الدعوة له على عجل وقد سارت بها ركبان وسائط التواصل الاجتماعي، انتظر المشفقون أن يستمعوا إلى اجتراح الحكومة ل”رؤية صحيحة وسياسات صحيحة”، بعد كل الذي حدث، لمعالجة جذور المأزق الاقتصادي الراهن، فإذا بالجميع يكتشف أن حل الحكومة الوحيد المطروح هو الإصرار على التمادي في التعامل مع أعراض الأزمة، والتغافل عن الاعتراف بأخطائها التي عمّقت من حدتها، مؤثرة التورّط في المزيد من الإنكار والبحث عن تبريرات فطيرة وإجراءات ممجوجة فاشلة سلفاً من كثرة تجريبها، ومن جرّب المجرب فلن يحصد سوى ندامة الكسعي.
(2)
لا يحتاج المرء لأكثر من بضع نقرات على محرك البحث “قوقل” وأشباهه، لينظر كيف تعامل النظام السابق مع أزماته الاقتصادية المتراكمة، ولا سيما انهيار سعر صرف العملة الوطنية في آواخر عهده، حتى يصيبه الفزع حين يرى أن حكومة “الثورة” لم تجهد نفسها سوى في نسخ اللغة نفسها باستلاف منطق الخطاب التآمري، وسوق التبريرات الساذجة ذاتها للدفع عن تقصيرها بدلاً من مواجهة النفس بأسباب العجز والفشل في إدارة الملف الاقتصادي، ولتعمد إلى اتخاذ الإجراءات المنبتة بالانتقال خطوة أخرى في طريق عسكرة الاقتصاد بالمزيد من العسكرة، والأمر لا يحتاج إلى عبقرية لإثبات أن الحلول الأمنية للمشكلات الاقتصادية محكوم عليها بالفشل التام مسبقاً، لأنها تتوّهم أنها ستحقق نصراً مبيناً بمحاربة طواحين الهواء، ولو كانت مثل هذه الإجراءات العاجزة المجربة تصلح لنفعت النظام السابق بكل عتو القوة وزهوها التي طالما التحف بها حتى حاقت به الندامة.
(3)
لقد كان امراً مؤسفاً حقاً أن تستمع للسيدة وزيرة المالية المكلفة، المعنية بالولاية ليست على السياسة المالية فحسب بل كذلك عن إدارة السياسات الاقتصادية، وبدلاً أن تخاطب الرأي العام بعقلانية وشفافية وبمنطق اقتصادي سليم، وربما بدواع سياسية، في تشخيص الأسباب الحقيقية للمأزق الراهن والتداعي لحلول موضوعية ناجعة مهما كانت مؤلمة، فضّلت الهروب إلى الإنكار التام بالزعم أنه لا توجد أسباب اقتصادية لما يحدث، وهو أمر يستطيع أي مبتدئ في علم الاقتصاد أن يدحضه، ولكنها للأسف آثرت أن تعتمر “البيريه” لتتحدث بلغة “الكاكي” وتصدر عدداً من الفرمانات التي قد تفلح أحيانا في أمور القمع فلن تجدي في شأن الاقتصاد، وإلا لكان السودان من أكبر اقتصادات العالم وهو الذي يعج بالقوى المسلحة ذوات العدد من كل شاكلة ومن كل لون.
(4)
وطالما تبنّت الحكومة رسمياً، كما عبر عن ذلك الوزراء المشاركون في تلك الليلة، نظرية المؤامرة والتخريب والحرب على الثورة، فلا يكفي أن تطلق إدعاءات مرسلة، وتشير بأصابع اتهام إلى المجهول، عليها أن تقيم الدلائل على هذه المزاعم، وأن تسوق المتهمين إلى محاكمات علنية في ساحات العدالة، إذ لم يكن الأمر يحتاج إلى انتظار تعديلات استثنائية في القوانين لتشديد العقوبات، والسؤال هل استنفذت ابتداءاً ما هو متاح منها أم أن الأمر لا يعدو أن تكون مظاهرة سياسية لتجييش العواطف والبحث عن مشاجب للهروب من تحمل مسؤولية الفشل الذاتي، والاكتفاء ببعض استعراضات القوة باعتقالات جزافية لا يلبث أن يخبو تأثيرها المحدود لأنها لا تعدو أن تكون مجرد إجراءات احترازية لحظية.
(5)
لقد أقامت السيدة الوزير الحجة على نفسها وهي تشكو الأسبوع الماضي أن مرتبها لم يعد يكفيها، متسائلة كيف حال من ليسوا في مقامها، ببساطة لأن قوته الشرائية تآكلت، وهنا تكمن جذور الاسباب الاقتصادية للأزمة التي حاولت نفيها، بسبب انفلات معدلات التضخم المفرط الذي صنعته السياسات والممارسات الحكومية نفسها، ولا يمكن الإدعاء هنا بأي حال من الأحوال أن مجرمين أو خصوم هم من افتعلوه، وما انفلات سعر الصرف إلا نتيجة طبيعية لإسراف الحكومة في الاستدانة لسد عجز موازنتها المهول بالإفراط في طباعة النقد، وما هذه المضاربات إلا انعكاس لهذه البيئة المحفزة لانهيار قيمة الجنيه، حين يفزع الجميع إلى محاولة الحفاظ على قيمة أموالهم بتحويلها لنقد أجنبي، مما يعزز الطلب عليه في ظل عرض محدود، ولذلك فإن الأصل في مواجهة هذا المأزق هي معالجة أسباب انفراط معدلات التضخم بسياسات صحيحة وليست مطاردة أثاره بعصي السلطة.
(6)
ومع ذلك أثبتت الوقائع طوال السنوات الماضية في كل المرات التي حدث فيها انهيار كبير بصورة متسارعة في سعر صرف الجنيه أن وراءه طلب حكومي كبير مفاجئ النقد الأحنبي، حدث ذلك آخر مرة حينما شهد الجنيه انهيارا متسارعا في قيمته في مارس الماضي ولامس حدود ال ١٣٠ جنيه للدولار، وكان السبب المباشر دخول الحكومة السوق الموازي لشراء ٧٠ مليون دولار لدفع تعويضات لضحايا المدمرة الأمريكية كول.
والآن تكرر المشهد نفسه بدخول الحكومة السوق الموازي أيضا لتوفير نحو ٣٠٠ مليون دولار لدفع تعويضات ضحايا السفارتين، في إطار تسويات ومحاولة شطب السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب، وهو ما أكده السفير السوداني لدى واشنطن د. نور الدين ساتي الذي نقلت عنه مجلة فورين بوليسي الأمريكية قوله إن الحكومة تمكنت من توفير المبلغ المطلوب، وهو ما قاد لهذه الدورة الجديدة من انهيار سعر العملة الوطنية، وبدلا من الإقرار بذلك لجأت الحكومة لترويج هذه الرواية الخزعبلية بتقديم تفسير يتسم بالسذاجة ويفتقر لأدنى منطق اقتصادي في مواجهة اتهامها بالصمت في اوساط الرأي العام، وليتها صمتت لكان ذلك أكرم لها.
التعليقات