واجهت البلاد خلال العام الماضي مستوى غير مسبوق من الأزمات الصحية والاجتماعية الطارئة والتي مثلت تحديا حقيقيا للدولة ومؤسساتها لتلقي على عاتق الحكومة الانتقالية المزيد من المسؤوليات الغير متوقعة والتي لم تكن الحكومة بطبيعة الحال جاهزة لها، لا من ناحية الموارد، ولا من ناحية النظم والهياكل الإدارية الموجودة والمستعدة، ابتداء من التوترات القبلية وماخلفته من ضحايا وأوضاع اجتماعية وإنسانية سيئة، مرورا بجائحة الكورونا المستمرة منذ مارس الماضي إلى الفيضانات الغير مسبوقة وماصاحب كل ذلك من أزمات اقتصادية عميقة ونقص حاد في المواد الغذائية بعدد من مناطق السودان المختلفة.
وبالإضافة لهذه الأزمات الملموسة والمباشرة فإن هنالك ماهو أخطر فالسودان يقع اليوم وحسب معظم البحوث والدراسات المختصة ضمن أكثر عشر دول حول العالم تضررا من تأثيرات التغير المناخي من نقصان معدل الأمطار وموجات الجفاف، والفيضانات المتكررة والارتفاع المضطرد لدرجات الحرارة بالإضافة لاستمرار حالة الزحف الصحراوي المزمنة، حيث تزحف الصحراء الكبرى جنوبا بمعدل يقارب الكيلومتر والنصف سنويا، ومع اعتماد العدد الأكبر من السكان على الزراعة والرعي كمصادر للدخل، تكون قضية التغير المناخي واحدة من القضايا الخطيرة والتي تستوجب الاهتمام والتعامل، ومن المهم أن اذكر هنا أن العديد من الباحثين ربطوا باستمرار بين حوادث العنف والاقتتال في السودان والتغير المناخي كسبب من أسبابها إن لم يكن السبب الأهم، مادعى بعضهم إلى وصف الحرب في دارفور بأنها أول نزاع ناتج عن التغير المناخي في العصر الحديث، وهو بالتأكيد توصيف تشوبه بعض المبالغة في جعل التغير المناخي وحده سببا للنزاع، ولكن الأكيد أن نتائج الزحف الصحراوي ونقصان الأراضي الصالحة للزراعة وتدني مساحات الرعي الطبيعية هي بالتأكيد من ضمن أهم أسباب النزاع في دارفور وعدد آخر من مناطق السودان، النزاع الذي سيكون من الصعب جدا التصدي له أو مواجهته بدون مخاطبة قضية التغير المناخي وتأثيراتها بصورة مستمرة واستراتيجية.
تشكلت نتيجة لهذه الأزمات العديد من الهياكل واللجان الطارئة على مختلف مستويات السلطة السيادية والتنفيذية الاتحادية مرورا بالولائية وحتى المؤسسات الأمنية، الأمر الذي الذي أدى ونتيجة لطبيعة وبنية هذه المؤسسات الطارئة المؤقتة إلى درجة عالية من الاضطراب وتضارب الصلاحيات وسوء التنسيق، إلا أن هذه التجارب عموما يجب أن تكون مفيدة للفاعلين السياسيين والسلطة الانتقالية وصولا لطرق أكثر نجاعة نتمكن عبرها من التعامل مع أزماتنا بأساليب أكثر تطورا وانضباطا لإدارة الطوارئ وأشكالها المختلفة بالبلاد.
ومن المفيد أيضا في هذا السياق أن ننظر لتجارب الأمم الأخرى والتي استطاعت أن تطور أنظمة مؤسسية لإدارة الطوارئ ففي الهند مثلا وعقب إجازة قانون ادارة الطوارئ في العام ٢٠٠٥م أسست السلطة الوطنية لإدارة الطوارئ – NDMA – كهيئة اتحادية لإدارة الطوارئ، وكذلك توجد في الولايات المتحدة الأمريكية ومنذ العام ١٩٧٩ ميلادية الوكالة الاتحادية لإدارة الطوارئ – FEMA – والتي أوكلت لها مهام ادارة الطوارئ والدفاع المدني في آن واحد والأمثلة حول العالم كثيرة ومن المفيد أن ننظر إليها باستمرار.
هذا الشكل من الهيئات مهم وضروري جدا في السودان اليوم فعبر وجود منصة واحدة تتكامل فيها مسؤوليات ادارة الطوارئ الحكومية على المستويات المختلفة وتتفرع ولائيا، يتوفر الامداد الدائم بالمعلومات والتنبؤ بالأخطار وإنتاج البروتوكولات والسياسات المختلفة ومراجعتها دوريا، الإشراف على التنفيذ وتنسيق مساعدات الأصدقاء والمنظمات العالمية وتوفير القدرات البشرية واللوجستية لمواجهة التحديات الطارئة بصورة مستمرة واستراتيجية، كما أنها وفوق كل ذلك ترشد كثيرا في الصرف الحكومي عبر وجود ميزانيات مالية سنوية مرصودة مسبقا ضمن بنود الموازنة العامة مضبوطة وخاضعة للإجراءات والعمليات الحسابية الدقيقة، والأهم من هذا وذلك هو أنها ستجعل لمسألة ادارة الطوارئ منصة خاصة ومنفصلة تعمل باستمرار ماسيقلل من انشغال الحكومات والسلطات المختلفة بجهود إطفاء الحرائق اليومية والتي لاتنتهي.
فالدعوة هنا هي للمبادرة بتطوير قانون سوداني لإدارة الطوارئ، نستفيد فيه من تجارب الأمم التي تقدمتنا في هذا المجال ونستعين بخبرات المختصين السودانيين به، لتتأسس هذه الهيئة الاتحادية المختصة بإدارة الطوارئ ونتجه نحو مأسسة قضية الطوارئ وضبطها فكل المؤشرات تقول بوضوح أن الأزمات والتحديات الطارئة لن تتوقف وستكون موجودة، ومن الواضح تماما أيضا أن الشكل المتبع للتعامل مع هذه الأزمات خلال الفترة السابقة لم يكن بالشكل المعقول بل مليئا بالفوضى وتضارب الصلاحيات وسوء التنسيق.

التعليقات