مازال المواطن والوطن هما الغائب الأكبر عن أسواق الكلام والحوارات العبثية في الخرطوم بين القوي الوطنية وفيما بين طرفي حوارات السلام في جوبا الذين لا يملك اياً منهم شرعية لازمة وكافية ليقرر وحده أو كليهما مجتمعين بشأن مستقبل الوطن في غياب ارادة المواطن مهما كثرت عبارات التبرير.
مازالت تتكرر حوارات النخب فيما بينهم بعيداً عن مصالح الوطن وهموم المواطن وجرياً وراء سراب وامل في استقرار ظل بعد كل حوارات يزداد ابتعاداً. ومازالت اسواق الكلام تلك وخرجاتها تمول من حساب الوطن والمواطن وتبدد فيها أغلب موارد الحاضر علي قلتها وكل موارد المستقبل، وتقسم بعيداً عن أجندة المواطن المغلوب علي أمره، وبناءً علي حوارات عبثية ظلت تدور منذ الاستقلال بعيدا عن ارادة المواطن صاحب الحق الأصيل والممول لها من عرقه وعلي حساب جهله ومرضه وموته بالإهمال والفقر المتزايد كل عام جديد.
من يجلسون في المركز وموقع القرار الآن هم بلا شرعية ديمقراطية، كلهم عسكر ومدنيين، لأنهم جاؤوا بناء علي اتفاق وليس انتخاب. نعم جاؤوا بناء علي اتفاق أعرج بعد ثورة غيرت نظام دكتاتوري، لكن ذلك لا يؤهلهم لأدوار أكثر من إدارة شئون الوطن في فترة انتقالية وحفظ البلاد ومصالح العباد لحين يقرر الشعب في صناديق الإنتخاب قيادته الشرعية المفوضة منه بالتقرير في كل شئون الوطن.
أما الطرف الآخر في المعادلة من حملة السلاح الذين لا يملكون من الشرعية غير الادعاءات وقوة السلاح والكلام الممجوج الذي ظل يعاد تسويقه كل مرة منذ نهاية الستينيات من القرن الماضي، فإن التحدي أمامهم أن يعودوا مختارين وفق اجراءات تكفل لهم العودة والاندماج في الوطن كل حسب نشاطه سواء كان سياسي أو مسلح والدخول في العملية السياسية استعدادا للانتخابات من دون أي شرط أو قيد طالما أن من كان سببا في خروجهم قد سقط وذهب. وعليهم تحمل المسئولية مع الآخرين تجاه تحديات الوطن بالتساوي والمسئولية اللازمة بلا أي انتهازية واستغلال واستغفال.
قد زاد من تعقيدات معادلة الحوارات العبثية هذه المرة وجود فاعلين من طرف المركز هم من ذات هيئة المتمردين علي المركز، من أمثال حميدتي، الذي لا يملك أي تأهيل سياسي وفكري ولا أي شرعية ديمقراطية للتقرير في شئون البلاد إلا وفق معادلة القوة الرادعة المدعومة من الخارج تماماً كشان من يفاوضهم. وفي كل الاحوال فان وجود هذه المجموعات غير المنسجمة مع نظام الدولة بالمركز يوفر فرص اكبر لالتقائهما علي إحتلال الدولة وقلب المشهد في اي لحظة قادمة.
وهذا الوضع يجعل الكفة مائلة تجاه تغليب الخيارات غير الديمقراطية لحكم السودان في المستقبل، وتغليب الدور الخارجي علي الخيارات الوطنية والقرار الوطني الخالص والمخلص، ويفتح الأبواب لأول مرة في تاريخ السودان لأدوار خارجية قوية ومؤثرة جداً في خياراتنا الوطنية، ومن شأن ذلك أن يشجع الانقلابات ويغري التدخلات الخارجية علي مواصلة ضرب القرار الوطني من خلال أيديها القوية في كل تفاصيل المكون الوطني داخل بعض القوي المدنية والعسكرية والسياسية والحركات المسلحة.
وهذا كله يعقد المشهد أيما تعقيد ويرفده بالكثير من القنابل الموقوتة التي ستبقي جاهزة ورهن الاستخدام والتوجيه في أي لحظة يراها اللاعب الخارجي، لتفجير المشهد الوطني في أي مرحلة قادمة تتهدد فيها مصالحه وتتعارض مع خططه لتشكيل المسرح الوطني علي الهيئة التي تبقي مصالحه مستمرة.
وساذج من يظن أن الصرف الكبير علي تاسيس الدعم السريع ومثله علي القوي السياسية والمدنية والحركات المسلحة وعلي دول الجوار ورعاية حوارات ما سمي بالسلام؛ كله لوجه الله. التاجر لا يدفع مالاً علي أي بضاعة إن لم يكن موقن من فرص الربح حتي لو بعد حين، خاصة إن كان تاجراً جشعاً وعديم الاخلاق. التحديات تزداد كل يوم علي القوي الوطنية الأصيلة وعلي كل الأفراد والجماعات الذين يحلمون بوطن مستقل تديره إرادة وطنية خالصة وسيادة وطنية كاملة.
أخشي ما أخشي أن يكون ما نراه من تبلد في الإحساس بالمسئولية تجاه هموم المواطن هو امراً مصطنعاً من رئيس الوزراء في إطار سيناريو ما. وأخشى ما أخشي أن يكون ما نراه من إهمال متطاول من الحاضنة السياسية لبنود الوثيقة الدستورية، وتغابيها عن الاختراقات الواسعة للسيادة الوطنية والمساومات الدولية، أخشى ما أخشى أن يكون ذلك كله في اطار سيناريو خبيث سيقود البلاد الي الارتهان والاستسلام الكامل والتسليم للاجندة الأجنبية.
التعليقات