(1)
سيكتشف السودانيون رويداً رويداً أن الأسوأ حقاً، ليست فزورة التطبيع المثيرة للجدل، بل حظهم العاثر الذي ابتلاهم بطبقة حاكمة تستحق طريقة إدارتها، العشوائية، بالغة الغرابة، للدولة السودانية في فترة انتقالية مصيرية أن تدرج في موسوعة غينيس للأرقم القياسية من فرط افتقادها لحنكة القيادة وغياب الرؤية وتخبط وتناقض مواقفها على نحو يطرح أسئلة جدية إن كانت تتوفر على أهلية حقيقية أو جدارة لمن ألقت بهم الصدف أو التدبير، في طريق الثورة السودانية الثالثة فأتوا بعجائب لم يأت بها الأوائل، وحتى لا يظن أحد أننا نتجنى على الطبقة الحاكمة بشقيها العسكري والمدني، دعونا نفحص ما سقناه آنفاً ونقيم عليه الدليل، ونبدأ بملاحظة مهمة أن هذا المقال ليس بصدد تحليل أو تقييم مسألة التطبيع، ولكن لإلقاء نظرة على حالة الهرج وسوء التدبير الذي يُدار به الشأن العام.
(2)
لا شك أن عملية شطب السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب، وما اتصل بها من رباط وثيق بإطلاق عملية تطبيع إجبارية مع إسرائيل كشرط ملزم ، حدث يكتسب أهمية استثنائية بحكم دلالاته وتداعياته، وتطور بهذه الخطورة لا يتصور حتى من له أدنى نصيب من الحس السياسي، دعك من أن يكون متصدراً لموقع المسؤولية العامة الأولى، أن يمر هكذا دون أن يبادر رئيس مجلس السيادة ورئيس الوزراء بخطاب ضافٍ للشعب السوداني يشرح الحيثيات والمعطيات والتبعات، أما أن تكون الوسيلة الوحيدة للشعب أن يعرف ما يجري في وطنه مما تناقلته وسائل الإعلام الخارجية على لسان مسؤولين أجانب في أمر من صميم الشأن السوداني وفي ظل تدثر تام بالصمت من جانبهما، فذلك ما يدعو للريبة حقاً عن حقيقة أجندة ما يجري وراء الكواليس ولمصلحة من؟!.
(3)
بافتراض أن هذه الخطوة تهدف فعلاً لتحقيق المصلحة الوطنية العليا فهذا أدعى لأن يُدار الأمر بشفافية كاملة، وبوضوح رؤية وخطاب يعرّف بشكل دقيق ما هي المصالح السودانية التي يتحدثون عنها على وجه التحديد، وما هي المكاسب والمخاطر المترتبة على ذلك، وأن تكون نتاج مشاركة فاعلة للقوى الفاعلة وللرأي العام لتحقيق أوسع توافق وطني حول القرار. ولكن من الواضح أن تحرك البرهان، ثم حمدوك المنضم إليه حديثاً، جاء معزولاً تماماً عن توفر الحد الأدني للتشاور المؤسسي حتى وسط أجهزة الانتقال الرسمية، وهو ما كشفته تزايد المواقف المعارضة المعلنة للخطوة من قوى سياسية ذات وزن معتبر في الائتلاف الحاكم، فضلاً عن التصريح اللافت لعضو مجلس السيادة صديق تاور الذي اتهم الرجلين صراحة باتخاذ قرار انفرادي، إضافة إلى عدم صدور قرار رسمي مؤسسي حتى الآن، لا من مجلس السيادة ولا من مجلس الوزراء، ولا منهما معاً كمجلس تشريعي مؤقت، ولا بتوافق مع الحاضنة السياسية، يكسب هذه الخطوة الانفرادية شرعية دستورية.
(4)
وفي ظل عجز محور برهان- حميدتي- حمدوك في استصدار قرار مؤسسي حتى الآن بهذا الصدد، فإن ما جرى في محادثة الجمعة الماضية الهاتفية، يفتقر لأي مشروعية، وقد لا تجاوز حد أن تكون مجرد خدمة عابرة لحملة ترامب الانتخابية، وأن المسألة برمتها بما في ذلك النتائج المتوقعة ستظل خاضعة لسيناريوهات وتوازنات ما بعد حسم السباق الرئاسي، ويظهر ذلك واضحاً في تخبط وتناقض البيانات الصادرة عن الخارجية السودانية بهذا الخصوص، وذلك البيان الصادر من السيد نصر الدين عبد البارئ، الذي لا نعرف إن كان يعبر عن نفسه كناشط أم بصفته مسؤولاً حكومياً، والذي ارتدى فيها ما لا يحصى من القبعات، مفتياً في جملة قضايا دستورية، وفي السياسة الخارجية، وفي الاقتصاد، وفي الشؤون السياسية، وقد أسرف وهو يؤكد تفويض الحكومة لاتخاذ ما تشاء من قرارات، ناسياً أن هذه الحكومة نفسها أقرت في بيان رسمي عقب لقاء حمدوك – بومبيو في 25 أغسطس الماضي أنها لا تملك تفويضاً في مسألة التطبيع، فكيف اكتسبته مرة أخرى فجأة بعد بضعة أسابيع؟!
(5)
أما ثالثة الأثافي في مسرحية “التتبيع” الهزلية هذه فهي ما اتحفتنا به صحيفتنا الغراء هذه بالأمس ووزير الاستخبارات الإسرائيلي إيلي كوهين يبشرنا بأن “قرار التطبيع كان جامعاً ومتفقاً عليه مِن أطراف الحكم”، مَن أطراف الحكم هذه؟، ومن تمثل حقا؟، فعلمها عند تل أبيب، وما دام حكومتنا تصر على سياسة “سكتم بكتم”، فلا مناص وقد تفضل السيد كوهين بتنويرنا بما يحدث في بلدنا أن نهديه هذا الهاشتاق:
“#شكراً كوهين”!!

التعليقات