(1)
لعل أكثر ما يثير فزع المرء على مصير هذه البلاد في زماننا الراهن ليست حالة الهوس ب”التطبيع” التي مسّت دعاته حتى أصبح عندهم كتميمة سحرية ستجلب المنّ والسلوى لتغطي عورة فشل وعجز الطبقة الحاكمة في التصدي لاستحقاقات إدارة الانتقال في جوانبه كافة، بل ما يثير الاستغراب حقاَ مدى السطحية التي يُناقش بها الأمر المفتقرة لأدنى درجات العقلانية والموضوعية ولا تكاد تغادر ذهنية التفكير الرغبوي، وما كان ذلك ليشغل البال لو اقتصر الأمر على غمار الناس ممن اكتووا بتبعات الفشل الحكومي لا سيما في إدارة شأن الاقتصاد الذي أحال معاش الناس إلى جحيم لا يُطاق، أفصبحوا يتمنون الأماني كالغريق يبحث عن أي بصيص أمل ولو كان سراباً للخروج من المأزق دون أن يملك ترف التفكير في بدائل او خيارات، أوعى….. بالتبعات والعواقب، كحال “الحاقن أو الحاقب أو الحازق” لا رأي له، وهم في ذلك معذورون.
(2)
ولكن أن يمتد التعاطي السطحي مع هذه هذا المسألة لتصبح ديدن متخذي القرار الذين بيدهم مصائر البلاد ومستقبلها فذلك ما ينبغي أن يكون تنبيهاً منذراً لتنهض القوى الحية والواعية في هذا المجتمع لتتداركه قبل أن تصيب جهالته العباد والبلاد في مقتل، ولات ساعة مندم. والشواهد على ذلك أكثر من أن تُحصى، تقف عليها دليلاً حالة التخبط والاضطراب والتجاذب بين أطراف ترويكا الانتقال، العسكرية والمدنية على حد سواء، مما كشفت عنه المواقف والتصريحات المتضاربة التي يكذّب بعضها بعضاً، فضلاً عن العشوائية التي يُدار بها هذا الملف بلا رؤية ولا استراتيجية ولا خطة سوى ترديد مسؤولين حكوميين لمقولة مبهمة “المصالح الوطنية العليا” لا يعرف أحد لها معنى ولا مبنى، وكان ذلك جلياً في حوار رئيس مجلس السيادة بالأمس في الفضائية السودانية حين سئل عن تعريف هذه المصالح تحديداً فلم يحر جواباً، مجيباً باقتضاب بإعادة ترديد هذه العبارة الغارقة في العمومية دون أن تسعه معرفة منهجية أو منطق يقنع المشاهد بدواعي أو جدوى هذه الخطوة سوى ما يردده عامة الناس في الأسافير.
(3)
ولا شك أن كعب أخيل هذا الانخراط الأعمى في خطوة التطبيع القسرية هذه افتقار السودان لنظرية للأمن القومي تعرّف بوضوح معطيات المصالح الوطنية العليا، ما هي محدداتها؟ وما هي مهدداتها؟ ، وهي رؤية استراتيجية بطبعها بعيدة المدى تحيط بالتبعات والمآلات حاضراً ومستقبلاً، ومدركة تماماً لما هو تكتيكي على المدى القصير والمتوسط، وما هي العواقب على المدى الأبعد، وبالتالي فهي مسألة لا يصلح فيها بتاتاً أن تُدار الأمور خبط عشواء، أو تدفعها الخضوع لغوائل ضغوط لا تنظر أبعد من أرنبة الأنف جرياً وراء وهم تخدير حلول مؤقتة لا تعدو أن تكون مسكناً عابراً على حساب حلول جذرية مهما كانت مؤلمة.
ومما يؤسف له أن الكثير ممن يتولون الشأن العام، دعك من العوام، يعتقدون أن المصالح الوطنية العليا مسألة اعتباطية معلومة بالضرورة، والحقيقة أن تعريفها بهذا الفهم لا يتجاوز في واقع الأمر ما يتسق مع مصلحة وأجندة صاحب القرار الذي لا يجد حرجاً في تلبيسها لبوس الشأن العام ، وتاريخ الدولة السودانية ما بعد الاستقلال مليء بمثل هذه العبر التي ضاقت بها أجندة الحكام فحاكت قرارات على مقاسها، وليس بمقياس الصالح العام، وكم من اتفاقية مجحفة بحق البلاد جرى تمريرها وكان نتاجها وبالاً على البلاد وليس آخرها تقسيم البلاد وفقدانها وحدة أراضيها، وعاقبتها ما يكابده الناس اليوم وقد ظنوا حينها أن فيها الخلاص، وكانت أن أنتجت دولتين فاشلتين بامتياز.
(4)
ما يبدو تنظيراً فيما سقناه آنفاً نرى تبعاته بياناً في الهرجلة التي تدير بها الحكومة الانتقالية بمجلسيها السيادي والوزاري مسألة التطبيع، فلو كانت هناك نظرية معلومة للأمن القومي السوداني وتعريف متفق عليه للمصالح الوطنية لما أضطررنا لمشاهدة مسرح العبث الراهن، التي يشك المرء إن كان رائده صموئيل بيكيت يستطيع تصويره كرائعته “في انتظار غودو”،ولو كانت هناك مؤسسات دولة محترمة تقوم بدورها كما ينبغي لها، وعملية صنع واتخاذ قرار منهجية ومؤسسية لما شهدنا هذا التراشق المخزي والمواقف المتناقضة والروايات الرسميةالتي يكذب بعضها بعضاً. وكل يغني على ليلاه، البرهان يؤكد أن شطب السودان من لائحة الإرهاب مرتبط عضوياً بمسألة التطبيع، وزميله العطا يقول إن الأمرين شئنا أم أبينا متلازمان، أما حميدتي نائب البرهان في مجلس السيادة فيتبرع برواية أخرى أن اقترانهما لا يعدو أن يكون مصادفة ولا صلة بين المسارين،.
(5)
هذا حال جبهة المكون العسكري، أما المكون المدني التنفيذي فحدث ولا حرج فأمره أكثر عجباً فرئيس الحكومة آثر التدثر بالصمت تاركاً للبرهان أن يتحدث باسمه، وكأن الذي يجري أمام ناظريه يحدث في جمهورية الدومينيكان، وترك وزراءه يتخبطون في رواياته، فالقائم بأعمال الخارجية ظل يكاد يقسم مرات ألا صلة بين المسارين، ويقول مرة أخرى أن الأمر كله سيخضع لموافقة المؤسسات، ثم يحدثنا في اليوم التالي أن اجتماعات وشيكة ستعقد بين الطرفين لتوقيع اتفاقيات في عدد من المجالات، وكثرة تصريحاته تنسي بعضها بعض، ثم يفتي وزير العدل بأن الحكومة الانتقالية تملك التفويض الكامل لتوقيع أي اتفاقات تحقق المصالح، التي لا يعرف أحد ماذا تعني، أما الأنكى فقد نسى في غمرة حماسته أن هذه الحكومة نفسها اصدرت بياناً رسمياً في 25 أغسطس الماضي عقب اجتماع حمدوك- بومبيو في الخرطوم أنكرت فيه تماماً أنها تملك تفويضاً بشأن مسألة التطبيع، أو أن يكون ذلك من مهام الفترة الانتقالية، وهكذا تناقض الحكومة نفسا بنفسها في تخبط لم يعرف له السودانيون مثيلاً في إدارة شؤون الحكم.
(6)
ويمتد هذا التدابر أيضاً إلى الافتقار لقرار سياسي محل توافق مفقود ليس داخل مجلس السيادة فحسب، أو مجلس الوزراء بل أيضاً مع الحاضنة السياسية للسلطة الحاكمة في قوى الحرية والتغيير التي أبدت غالب مكونات الإئتلاف ذات الوزن في تحالفيه الرئيسيين نداء السودان، وقوى الإجماع الوطني رفضها للخطوة، ربما استثناء المؤتمر السوداني، ومضت أكثر من ذلك حين رد أبرز رموزها بالنفي على قول البرهان أنه أجرى مشارات معها فيما أقدم عليه.
وتكشف هذه عن محنة أخرى في إدارة الدولة في هذه الحقبة الانتقالية الحساسة، التي تفتقر إلى أدنى التقاليد المرعية في اتخاذ القرارات بنهج مؤسسي، فقد بادر البرهان من تلقاء نفسه بالذهاب إلى لقاء عنتبي بتدبير خارجي، وواصل مسعى التطبيع دون ان يستند على أي تفويض مؤسسي، فالمشاورات التي يقول إنه أجراها سواء مع رئيس الحكومة أو قادة الحاضنة السياسية لا تكتسب أية قيمة لا سياسية ولا دستورية ما لم تصدر بقرارات مؤسسية معلومة على الأقل من قبل مجلس السيادة، مجلس الوزراء، ومجلس الأمن والدفاع، والمجلس التشريعي المؤقت، أما مجرد الحديث عن إجراء مشاورات مرسلة هكذا دون تقنين مؤسسي لها، فهذا ربما يصلح في إدارة الشؤون الاسرية والاجتماعية، ولكنه بالتأكيد آخر لا يصلح لإدارة الشأن العام.
(7)
وعملية صنع واتخاذ القرار بصورة مؤسسيةليسست أموراً شكلية بأي حال، بل هي استحقاق دستوري وسياسي لا مناص منه،فهي الضمانة الوحيدة لتأكيد أن القرار اتخذ بالفعل لتحقيق مصالح عامة توفرت لها الدراسة والتمحيص ووزن المعطيات، أما أن يُدار الأمر كله في غرف مغلقة وراء الكواليس، فلا يجعل سبيلاً لسوى التشكيك في الدوافع الحقيقية للإقدام على هذه الخطوة المعزولة لخدمة أجندة ذاتية، فتحقيق أجندة المصالح العامة لا يمكن أن يتم في الظلام ليس فقط من وراء الشركاء في قيادة الفترة الانتقالية بل أيضاًمن وراء الشعب السوداني الذي تم تجاهله تماماً، واختطف لسانه بزعم لا يقوم عليها دليل، فطالما تحدى البرهان القوى السياسية باتخاذ وقف مناهض في برامجها الانتخابية، فمن أين حصل هو على التفويض الشعبي؟ ، ولماذا لا يدعو لاستفتاء الآن ليقول الشعب كلمته؟ .
(8)
لم يكن الأمر ليحتاج لكل هذا اللجاج لو توفر الحد الأدنى من حسن النية، وهي عملة نادرة في لعبة السلطة إن لم تكن معدومة تماماً، والشفافية والمسؤولية الأخلاقية والاستقامة في التعامل مع الشأن العام فيمن يتولون السلطة، فكما يعرف أي مبتدئ في شؤون السياسة الخارجية أن العلاقات بين الدول تجري بهذا التبسيط المغرق في السذاجة، ولا أحد لا يعرف أن إدراج السودان في لائحة الدول الراعية للإرهاب وما ترتب عليه هي واحدة من الأدوات التي تقول الولايات المتحدة صراحة أنها تستخدمها لتغيير سلوك الحكومات، أو بالأحرى السيطرة عليها لتمرير أجندتها، كما أنه لا أحد يجهل أن فرض التطبيع القسري هو ورقة رابحة في هذه اللعبة، وبدلاً من أن يدعي القائمون على الأمر أنه كان هناك تكافؤ في التفاوض، فهذا محض هراء، لقد كانت عملية ابتزاز لا تخطئها عين، فكان أولى لهم أن يشرحوا بوضوح للشعب السوداني هذه الحيثيات وله الحق في قبولها أو رفضها وتحمل تبعاتها، أما ادعاء أية بطولات والترويج لمزاعم بتحقيق مصالح وطنية، فلن يصمد طويلاً حين يكتشف السودانيون أنهم كانوا مجرد ورقة مناورة صغيرة لا قيمة لها في لعبة الأمم.
المقالات
التعليقات