شاهدت قبل يومين فيديو مركبًا من عدة مقاطع تحدث فيه الشيخ يوسف القرضاوي وشيخ آخر لا أعرفه، لعله سعودي، إضافة إلى الرئيس المصري الراحل محمد مرسي يمدحون فيه مدنية الدولة بحماس لافت. ولو أضفنا إلى هذا الفيديو ما قاله أردوغان عن ضرورة علمانية الدولة وما قاله الشيخ راشد الغنوشي، عن أن حزب النهضة التونسي قد فصل الدَّعَوِي عن السياسي، إضافة إلى ما قاله الدكتور علي الحاج، الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي عن مزايا العلمانية، لاتضح لنا أن القيادات العليا في حركة الإسلام السياسي تقف مع علمانية الدولة. لكن، للقيادات الوسيطة لفصائل الإسلام السياسي في السودان شأنٌ آخر. فجيشهم العرمرم من الصحفيين ومن الكتائب الإلكترونية وأئمة المساجد، منخرطٌ بحماس لافت في شيطنة علمانية الدولة. وليس في هذا غرابة، لأن التناقض في التصريحات سمةٌ رئيسةٌ لدى أهل الإسلام السياسي. فهم فيما خبرنا ليسوا دعاة دينيين حقيقيين، وإنما هم سياسيون ذرائعيون، بلا مبدأ. كل همهم هو الوصول إلى السلطة والحفاظ عليها بكل سبيل. فإن اقتضى الحال مدح العلمانية أو مدنية الدولة والتغني بمزاياها فعلوا ذلك، دون أن يطرف لهم جفن، وأن اقتضى الحال ذمها وشيطنتها، ذموها وشيطنوها وسلقوها بألسنة حداد. بل، وجعلوها أصلًا لكل الشرور والموبقات.
على المستوى القاعدي ينحو معتنقو أيديولوجية الإسلام السياسي إلى شيطنة علمانية الدولة. فيبثون عنها الفرية بعد الفرية، ويغرسون كراهيتها في أدمغة الجهلاء، لكي يستغلونهم في الكسب السياسي الآني. هم لا يستثمرون قط في رفع درجة وعي الجماهير لأن بقاءها على الجهل يسهل شحنها عاطفيًا وحشدها واستخدامهم أدواتٍ لتحقيق الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها. هم والطائفية السياسية في هذا سواء. غير أن هذا تكتيكٌ بئيسٌ تعمل قوانين التطور ضده باضطراد. ولسوف يأتي وقتٌ قريبٌ جدًا يصبح فيه هذا النوع من الاتجار بالجهل متعذرًا تماما. ولو أنهم كانوا يفقهون لتأملوا هذه الثورة العظيمة التي قام بها الشباب من الجنسين فانتزعت منهم في أربعة أشهر سلطةً بذلوا في حمايتها كل غالٍ ونفيسٍ على مدى ثلاثين عامًا، بعد أن ظنوا أنهم أحرزوها إلى الأبد. لو تأملوا هذا الذي جرى لهم بعقل رزين غير مُستفزٍّ، ولا حانقٍ، لعلموا صوب أي وجهةٍ تهب الريح. ولأقلعوا، إذن، عن ألاعيب الشيطنة القديمة التي ما فتئوا يمارسونها. ولشفيت البلاد من هذا الاستقطاب الحاد المقعد، المتسم بالغوغائية.
علمانية الدولة ليست نظرية معرفية كلية تقوم على نفي الدين فلسفيًا والتضييق عليه عمليًا في المجال العام، مثلما فعلت الشيوعية في كل من الاتحاد السوفيتي والصين. علمانية الدولة جاءت أصلاً لقفل الباب أمام الكهنوت الديني الخادم للملوك والمشرعن للاستبداد المناقض لجوهر الدين وللديموقراطية. لقد حكم الإسلام السياسي السودان منفردا لثلاثين عامًا، فأين هو الدين الذي أقامه. ما جرى لم يكن سوى استغلال بالغ السوء للدين لفرض الاستبداد وحماية الفساد وكبت من ينتقدون ذلك. فدعونا لا نغرق في الجدل الفلسفي حول المصطلح ونشأته ودلالته. فالمقصود بعلمانية الدولة، ببساطة شديدة، هو ديموقراطيتها وحيادها بحيث يتساوى الناس تحت مظلتها في الحقوق والواجبات، غض النظر عن أديانهم أو جندرهم أو أوضاعهم الطبقية. فيا أهل الإسلام السياسي من حقكم أن تكسبوا سياسيًا شأنكم شأن غيركم. ولكن اكسبوا بالحق لا بالباطل. فمالكم تلبسون الحق بالباطل وأنتم تعلمون؟

التعليقات