مما لا شك فيه أن الحزب الشيوعي السوداني من الأحزاب السودانية التي يمكن أن ينطبق عليها تعريف الحزب من حيث أن له مؤسسات منتخبة ومرجعيات فكرية ومناهج في العمل، ويتوفر علي تجارب كثيرة في العمل السياسي، وعلي ارث من التجارب تمتلكها كوادر مخضرمة ومعمرة مازالوا علي ذات الحماس القديم، منذ أن كانت الشيوعية بكراً تحلم باجتياح رؤاها الفكرية العالم قبل أن تهزمها نتائج التجربة في أرض الواقع وفي منصة انطلاقها الأولى بالإتحاد السوفيتي، ومن بعد ذلك في الصين وكوبا وعدد مقدر من دول أمريكا الجنوبية.
الا أن الحزب الشيوعي السوداني ظل من قلائل الأحزاب الشيوعية في العالم علي حاله الأول، حيث مازالت تقيِّد نظرته للواقع وتعامله مع الأحداث أسس نظرية قديمة ثبت قصورها عن تلبية مطلوبات الواقع، وهذا لعمري يبقي أهم المناقص التي مازالت تقيِّد مقدرات هذا الحزب عن الإنطلاق، وتكبل امكاناته الواسعة التي توفرت له وكانت تؤهله لعمل فتوحات واختراقات داخل قطاعات واسعة من الشعب السوداني اذا طور رؤيته ومناهجه.
ذكرت في مقال سابق أن الحزبين الوحيدين بالساحة السياسية السودانية الذين ينطبق عليهما التعريف الكامل للحزب هما حزب الأمة القومي والحزب الشيوعي، ذلك من حيث البناء التنظيمي والهيكلي والمرجعيات الفكرية ومن حيث وقوفهما علي إرث واسع وممتد من الممارسة ومن حيث اتساعهما لاستيعاب كل التنوع الجماهيري والجغرافي الوطني، بلا تفضيل لأحد الا وفق القدرات والعطاء وبناءً علي شروط الديمقراطية.
ولعل هذا التشابه من حيث الشكل والمؤهلات المتوفرة للحزبين هو الذي جعلهما يتشابهان بشكل يكاد يقارب التطابق في تقييمهما لتجربة قوي إعلان الحرية والتغيير ووصمها بالفشل. واجماعهما أيضا علي فشل تجربة الحكومة الانتقالية. واتفاقهما بلا حوار فيما بينهما علي عدم أهلية هذا المشهد علي الصمود والنجاح في مواجهة التحديات الماثلة والمنتظرة.
هناك طبعاً اختلافات في مواقف الحزبين حول بناء الوثيقة الدستورية وحول الدور المفترض للعسكر داخل المنظومة الحاكمة وحول أفضل الخيارات في التعامل مع التحديات الوطنية الماثلة والمتوقعة مثل قضايا الاقتصاد والسلام والسياسة الخارجية وغيرها وهذا أمر وارد.
مهما اختلفنا حول مواقف الحزب الشيوعي إلا أننا يجب الإعتراف أنه أعلن موقفاً وطنياً محترماً وقوياً من مسألة التطبيع مع الكيان الصهيوني وضد سياسات ترام الابتزازية، وهذه مواقف تناسبه كحزب وطني من المؤسسين للعمل السياسي الوطني والمشاركين في كل تفاصله وجدير أن يمتلك القدرة علي التمييز. ويحسب للشيوعي وقوفه موقفاً وطنياً ضد خرق الوثيقة الدستورية بإتفاق سلام جوبا مع الجبهة الثورية.
الشيوعي وهو يقف الموقفين السابقين إنما يؤشر الي مجموعتين انتهازيتين، إحداهما تلك التي خرجت عليه بقيادة الشفيع خضر والتي تتحكم في الحكومة بقيادة الشيخ خضر، والثانية هي المؤتمر السوداني الذي يتنافس مع المجموعة الاولي في الانتهازية وبيع المواقف الوطنية، ومحاولاتهما الدائمة للتحكم بحمدوك والانفراد بالحكومة الإنتقالية واستغلالها لصالح اجندة سياسية ضيقة. وهذا كان واضحاً في دور هذين الحزبين في حوارات سلام جوبا وفي توقيع اتفاق التطبيع مع الكيان الصهيوني.
اختلف حزب الأمة القومي مع الشيوعي حول فرص معالجة فشل قحت والحكومة، ففي حين يري حزب الأمة وينادي بمواصلة الدعم للحكومة الإنتقالية الي ان تصل الي نهاية الفترة الانتقالية وتقيم الانتخابات، وبضرورة إصلاح التحالف وجعله مؤهلاً لإدارة المشهد السياسي المختل والمرتبك وجعله أفضل تمثيلاً للقوي المكونة له ولإرادة القوي الثورية، وحتي يكون أكثر سيطرة علي حكومة الثورة، واقدر علي الزامها بالسير وفق بوصلة الثورة وما قررته قوي الثورة في الوثيقة الدستورية.
لكن الشيوعي يبدو واضحاً أنه لا يكترث بفشل الحاضنة السياسية ولا بالحكومة الانتقالية، بل إنه قرر بالفعل الإستثمار في هذا الفشل واستغلال كل ما توفر علي هامش ذلك من موارد لصالح تكوين تحالف جديد يكون هو القائد له كبديل لتحالف قحت.
في يوم الجمعة ٧ نوفمبر ٢٠٢٠م اصدر الحزب الشيوعي بياناً كان مفاجئاً للكثيرين، في مرحلة حرجة جداً من مراحل الفترة الانتقالية. وأهم ما ورد بالبيان قراران: أن الحزب الشيوعي السوداني قرر الخروج من تحالفي الحرية والتغيير وتحالف الإجماع الوطني. وقرر أيضاً أن يقيم علي انقاضهما تحالفاً سياسياً جديداً.
وقد جهز الشيوعي الميدان والبيئة المناسبة لذلك منذ مدة بدأت من ايام إعتصام القيادة العامة. وكان ذلك واضحاً من خلال سعيه الدائم للوقوف بعيداً عن أي إجماع للقوي الوطنية في احلك الظروف ومحاولة اعادة قراءة المشهد كل مرة لالتقاط من يقفون معه في مواقفه وإعدادهم لاستصحابهم معه في تحالف بديل كان يخطط له منذ وقت مبكر. وظهر ذلك في تقسيمه لتجمع المهنيين في مرحلة كانت قحت في اضعت مراحلها، في مسرحية انتخابية، طرد بموجبها كل قيادات تجمع المهنيين التاريخية غير الشيوعية، وانتهت تلك العملية بتجمع المهنيين منقسماً علي نفسه الي جسمين منفصلين. وتأكد ذلك أيضاً في سعي الشيوعي الجاد في مخاطبة الحلو وعبدالواحد نور ومحاولاته لإعلان تحالفات معهما عن طريق مجموعته في تجمع المهنيين. ووضح ذلك أيضاً في المهرجانات التي أقامها داخل العاصمة وفتحها لمخاطبات الحلو وعبدالواحد ولقاءاته بهما في خارج السودان وفي كاودا. هذا بالإضافة لأنشطة الحزب الشيوعي النازعة منذ نجاح الثورة لتمييز نفسه بعيداً عن القوي الوطنية وتحالفاتها. مضافاً الي كل ما سبق محاولاته لاستغلال وجوده القوي داخل تشكيلات لجان المقاومة في العاصمة القومية لفرض تمثيل اكبر من المنصوص عليه بالوثيقة في المجلس التشريعي وكذلك في سلوك لجان المقاومة النازع باستمرار لمواجهة الحكومة واحراجها. ويسعي ليكون للجان المقاومة تمثيل أكبر بالتحالف الذي شرع في تكوينه في مواجهة المشهد السياسي. واضح أن الحزب الشيوعي أكمل خططه وقرر أعلان تحالفاته المزمعة في إنتظار الانتخابات القادمة منذ وقت مبكر.
الحزب الشيوعي يعلم أنه لا يتمتع بحظوظ تؤهله لإحراز مقاعد بالبرلمان القادم إن دخل الي الانتخابات بنهاية الانتقالية وحيداً تحت إسمه، ولذلك فهو يسعي منذ اللحظة لتشكيل تحالف عريض يركب عليه ويقوده ويقدم به رؤياه للمشهد من وقت مبكر، ويستغل في ذلك اضطراب المشهد واخفاقات حمدوك والأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها الحكومة والحاضنة السياسية، ويقدم نفسه كمنقذ للموقف المرتبك.
وفي اطار هذه الخطة فان الشيوعي يسعي بشكل جاد لمحاصرة الحكومة وشق جسد التحالفات الوطنية القائمة بشكل رأسي وإنشاء تحالف جديد يتشكل من الحزب الشيوعي ولجان المقاومة وتجمع المهنيين جناح الشيوعي وبعض القوي المسلحة مثل الحلو وعبدالواحد وبعض النقابات.
ولكن الذي فات علي الحزب الشيوعي أنه يسعي بطموحات واسعة جداً هو غير مؤهل من حيث البناء الفكري والسياسي لاستيعابها ومن ثم النجاح فيها. كان المطلوب من الشيوعي حتي يضمن النجاح، أن يستبق تلك الخطوات بإجراء جراحات داخلية عضوية عميقة بالفكر ومناهج العمل. ويقدم لهذا الدور قيادات جديدة ومختلفة عن قياداته التاريخية المتجمدة والتي عفي عليها وعلي مناهجها الزمن، وبعد أن يقدم الحزب للرأي العام بشكل مختلف، قادر علي ازالة الحرج من القوي الوطنية ويجعلها لا تتردد في التحالف معه.
اري ان الخطوة التي قررها الشيوعي خطوة خطيرة جداً ولا تتوفر لها فرص كافية للنجاح. وربما تشكل حماقة تنتهي بالشيوعي الي الخروج من اي دور في المستقبل وتزيد من جراحاته المتراكمة. وفي الإتجاه الآخر فان خروج الشيوعي يمكن أن يمثل فرصة ذهبية لإصلاح تحالف قوي اعلان الحرية والتغيير، الذي كان دائم التعثر بسبب معاكسات الشيوعي ومواقفه المتصلبة. الا أن ذلك النجاح يشترط فيما يشترط فك الارتباط الانتهازي فيما بين المؤتمر السوداني ومجموعة الشفيع خضر بقيادة الشيخ خضر. ويمكن أن يتم ذلك اذا تحركت ارادة سياسية واعية وقادت حوار مع الشيخ خضر في شكل تعهد بدعم الحكومة وانجاحها الي ان تبلغ منتهاها في مقابل ابتعاده عن أي تدخل بشئون قحت او داخل القوي السياسية المكونة لها والكف عن إستغلال الوظائف في إختراق الأحزاب والالتزام التام بتنفيذ بنود الوثيقة الدستورية.

التعليقات