(1)
لم يكن الأمر محتاجاً لانتظار صحيفة “نيويورك تايمز” المرموقة لتكشف في تقرير لها بالأمس، ما كان واضحاً من سياق التطورات التي لازمتها، أن “مقامرة” التطبيع الذي انخرط فيه المكوّن العسكري في ترويكا الانتقال بلا حساب، مهدّد بالانهيار بسبب التعقيدات المحيطة باستيفاء شروط الصفقة من الجانب الأمريكي مما يجعل الأحلام السودانية التي بننت قصوراً من الرمال على وقع وعودها، تواجه ساعة الحقيقة في ظل الضبابية التي تحيط بمصير تشريع “السلام القانوني” اللازم لاستعادة الحصانة السيادية للسوان بما يكفيه غوائل التعرض للمزيد من الابتزاز المالي حال صدور أحكام بأي تعويضات ضده من قبل أسر ضحايا هجمات الحادي عشر من سبتمبر، لا سيما في ظل تحرك رباعي من شيوخ بارزين وتقديمهم لمشروعين يربطان شطب السودان من لائحة الإرهاب، ونيل الحصانة السيادية بتعهد السودان بتعويض ضحايا برجي مركز التجارة العالمي، وهو ما يجعل المسألة برمتها تحت طائلة التصويت الأسبوع المقبل.
(2)
جاء تقرير نيويورك تايمز المعنون بأن “اتفاق السلام بين السودان وإسرائيل معرض بالفعل لخطر الانهيار” على خلفية المحادثة التي جرت في وقت سابق من هذا الاسبوع بين الفريق عبد الفتاح البرهان ووزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو، والتي نقل فيها رئيس مجلس السيادة للوزير المنصرف مخاوفه من عدم تمرير الكونغرس لمشروع التشريع المثير للجدل حول “السلام القانوني” للسودان، وأن من شأن ذلك إبطاء دفء العلاقات الوليدة بين الخرطوم وتل أبيب، وأنه لن يكون بوسعه المضي قدماً في عملية التطبيع الكامل المنتظرة، ونقلت الصحيفة عن مصدر مطلع قوله إن السيد بومبيو أكد للجنرال البرهان أن “خطة الحصانة ستتم الموافقة عليها في الأسابيع القليلة المقبلة” دون تحديد قاطع لذلك، في وقت يخطط مسؤولو إدارة ترامب بالفعل لحفل توقيع مع المسؤولين والإسرائيليين السودانيين في البيت الأبيض في أواخر ديسمبر.
(3)
الانزعاج الذي أبداها السيد برهان في محله تماماً، وإن بدا اكتشافاً متأخراً، ذلك أن عملية شطب السودان من لائحة الإرهاب التي ابتدرها الرئيس المغادر دونالد ترمب بإخطار الكونغرس في 26 أكتوبر الماضي نيته رفع السودان من اللائحة السودان، وهو ما يُفترض أن يثمر في 11 ديسمبر عند نهاية مهلة ال 45 يوماً المتاحة للكونغرس بعدم اعتراض الخطوة، وإن كانت مسألة بالغة الأهمية في طريق تحرير السودان من ربقة الارتهان للابتزاز والعقوبات الأمريكية غير المبررة، إلا أنها مع ذلك ستغدو مجرد نصر معنوي محض لن يحدث تغييراً جوهرياً في بقاء السودان مرتهناً للأجندة الأمريكية، ما لم يُصحب باستعادة الحصانة السيادية للسودان بتشريع قانوني يحميه من الخضوع لأي مطالبات بتعويضات مستقبلية لأن ذلك يعني ببساطة أن القيمة العملية للشطب من لائحة الإرهاب هي ضمان تطبيع علاقات السودان مع النظام المالي العالمي، وهو ما يجعلها تحت رحمة أية أحكام قضائية ملزمة بأية تعويضات مستقبلية لضحايا 11 سبتمبر.
وهوما نبهت “نيويورك تايمز” لتبعاته بأنه “بدون الحصانة التي يوافق عليها الكونقرس، قد يتردد المستثمرون الأجانب في التعامل مع السودان خشية أن ينتهي بهم الأمر إلى تمويل مليارات الدولارات كتعويضات لضحايا الإرهاب”. وخلصت الصحيفة إلى ما هو معلوم بالضرورة من أنه “من دون الاستثمار الأجنبي، ليس لدى الحكومة الانتقالية في السودان أمل كبير في انتشال بلادها من الفقر المنتشر وعدم الاستقرار”.
(4)
هل في هذا المشهد الضبابي المضطرب ما يدعو للعجب؟، بالطبع لا شئ مستغرب، ولكنها نتيجة منطقية متوقعة بالنظر إلى الممارسة “العشوائية” التي أديرت بها أهم تحديات السياسة الخارجية السودان في الأشهر الماضية، في غياب أهم ركن في هذا الصدد فشلت ترويكا الانتقال في إنجازه حتى اليوم، وهو ما قررته الوثيقة الدستورية في البند 13 من مهام الفترة الانتقالية “وضع سياسة خارجية متوازنة تحقق تحقق المصالح الوطنية العليا للدولة وتعمل على تأسيس علاقات السودان الخارجية وبنائها على أسس الاستقلالية والمصالح المشتركة بما يحفظ سيادة البلاد وأمنها وحدودها”، وفي غياب سياسة خارجية معلومة متفق عليها بين الأطرف المعنية وفق قواعد دستورية مؤسسية، جرى اختطاف سياسة البلاد الخارجية يتحّكم فيها من يستطيع فرض إرادته وفق تصوراته وأجندته الذاتية ويعتبرها بالضرورة متطابقة ومصالح البلاد العليا دون دليل، وشهدنا في هذا الصدد تحركات السيد البرهان الانفرادية منذ لقاء عنتبي في فبراير، وحتى المحادثات الهاتفية الرباعية في أكتوبر، والتي انتهت بإعلان اتفاق تطبيع لم تُعرف له حتى اليوم صفة مؤسسية ولا دستورية، وسط تنازع وإدعاءات بلا سند حتى شهدنا موقعة “عطاء من لا يملك لمن لا يستحق”، وما درى الجميع أنه لا أحد أصلاً يملك شيئاً ليعطيه أو ليمنعه.
(5)
لذلك كان من الطبيعي أن تجد السلطات الانتقالية بقضها وقضيضها تدور في حلقة مفرغة، أعطت كل شئ، ولم تستبق شيئاً، خضعت للابتزاز لتدفع نصف مليار دولار لتتحرر من ارتهان لا يزال يبدو بعيداً، ورضيت أن تكون مجرد ألعوبة في سباق انتخابات إسرائيلية في فبراير الماضي، ولعبة الانتخابات الأمريكية الأخيرة، واستخدمت معبراً لأجندة خارجية قدمت فيها كل شئ مقابل وعود ها هي تستبين الآن أنها كانت تجري وراء سراب. لقد بدا وكأن هناك تفاوض حقيقي بالفعل بين طرفين، ولم تكن سوى لعبة من طرف واحد سهّل مهمته تواضع الطرف السوداني المفتقر للوعي والتجربة والخبرة في دهاليز السياسة الدولية ظآن أن لعبة الأمم تفلح فيها حسن النيّات والاستعداد للعطاء انتظاراً لعائد لن يؤتى لما يتم الحصول عليه مجانا. وكما أشارت نيويورك تايمز في تقريرها أن كل الذي جرى لم يكن سوى سيناريو متسرع فرضته إدارة ترمب على الطرف السوداني لتعزيز فتوحاتها المجهضة في صفقة القرن عسى أن تظفر من بنصر انتخابي، وها نحن أمام ساعة الحقيقة “مقامرة” تزداد احتمالات خسارتها.

التعليقات