لعل من أكبر وأخطر التحديات الخارجية التي يواجهها السودان حاليا، التوتر حد الاقتتال على حدودنا الشرقية مع الجارة إثيوبيا. ورغم أن القضية مثار النزاع، حُسمت برضا كل الأطراف وفق إتفاقية عام 1902، إلا أن التوترات ظلت باستمرار موجودة، ولكنها كانت دائما محدودة ومحصورة في نطاق ضيق. الجديد هذه المرة، هو اتساع حجم المواجهات بين البلدين، مما ينذر بحرب شاملة، قد تفجر المنطقة برمتها، وقطعا ليس فيها أي طرف رابح. أعتقد من الضروري أن تتحلى قيادتنا بأقصى درجات الحيطة والحذر، حتى لا تقع في فخ أراه منصوبا بإحكام، يدفع ببلادنا إلى أتون حرب، كل مؤشرات أوضاعنا الداخلية الراهنة، السياسية والاقتصادية، تشير بعدم جاهزيتنا لها. ومع ذلك، يجب ألا نتوانى جميعا عن الوقوف بقوة وصلابة خلف قواتنا المسلحة، دعما ونصرة، لا بالهتاف وعلو الصراخ ، وإنما دعما ملموسا جوهره وحدة وتماسك جبهتنا الداخلية. وفي هذا الصدد، أرى من الضروري أن ينخرط قادة البلاد السياسيون والعسكريون، اليوم قبل الغد، في حوار صريح وبناء، يبحث أولا أفضل السبل لدعم قواتنا المسلحة، ويبحث، أولا أيضا، أفضل الخيارات للتعامل مع هذا النزاع وكيفية نزع فتيل الحرب، والتوافق على خطوات ملموسة مجمع عليها. ومباشرة، أدعو الأخوين رئيس مجلس السيادة ورئيس مجلس الوزراء للمبادرة بجعل هذا الحوار ممكنا وعمليا، وبالضرورة شفافا. فالشفافية، تُعتبر من أهم أركان حُسن إدارة الدولة وتجسيد معنى الحكم الراشد، وتحقيق النجاحات والانتصارات، في السلم وفي الحرب. وبالطبع، أبدا لا تعني الشفافية الكشف عن المعلومات الخاصة بأمن الدولة وسياساتها الدفاعية وتحركاتها الخارجية، وغيرها من المعلومات التي قد يسبب كشفها ضررا بليغا بالأمن القومي. وفي ذات السياق، من الضروري أيضا التوحد حول الرؤية الاستراتيجية لسياسة السودان الخارجية، والتي على أساسها يتم رسم مجموع نشاطات الدولة الخارجية، وتحديد أولويات تحرك السودان خارجيا، بما في ذلك اتصالاته الرسمية مع مختلف فواعل النظام الدولي، وتأثيرات هذا التحرك على واقع البلد الداخلي. وهذه النقطة أراها في غاية الأهمية، نظرا لما سببته الإنقاذ من تخريب واسع في سياسة السودان الخارجية، وجاءت ثورة ديسمبر/كانون الأول وفي مقدمة أهدافها إصلاح هذا التخريب، بل وإعادة النظر في مجمل سياستنا الخارجية لصالح الوطن وشعبه، ووفقا للمبادئ المتوافق عليها دوليا. وهذه الرؤية الاستراتيجية للسياسة الخارجية، ترسمها أجهزة الدولة المختصة والقوى السياسية الداعمة لها، ويتم بلورتها في برنامج محكم التخطيط ومحدد الأهداف، بما يحقق المصالح الوطنية العليا للدولة.
إن وجود السودان الجيوسياسي محاطا بالصراعات العرقية والدينية والسياسية وبحروب المحاور بالوكالة في أكثر من بلد مجاور، وبانتشار التنظيمات المتطرفة في جنوب ليبيا وإقليم تبستي بدولة تشاد، وبتنظيمات القاعدة وبوكو حرام وسيلكا في غرب أفريقيا وبحيرة تشاد وغربي أفريقيا الوسط، وبتمركز حركة الشباب الصومالي في شرق أفريقيا، ووجود جيوب وبقايا جيش الرب اليوغندي في شرقي أفريقيا الوسطى، ومع وجود خلايا نائمة للتنظيمات المتطرفة في البلاد، ومؤخرا تفاقم النزاع العسكري في إقليم التقراي الإثيوبي، ولجوء الآلاف من سكان إثيوبيا وغيرها من دول الجوار إلى السودان، مع التسيب في ضبط حدود السودان الدولية، مما سيؤجج من الصراعات الموجودة أصلا حول الأرض، إضافة إلى واقع البلاد الاقتصادي المتردي، وواقع الانفلات الأمني الراهن، ومع الانتشار الكثيف للسلاح خارج قواتنا النظامية، كل هذا وغيره يجعل من السودان بيئة خصبة لإقحامه في المزيد من الصراعات وتجديد حروبه الأهلية، مما يضاعف من مخاطر تمزقه وتفتته.
أما التحديات الداخلية، السياسية والاقتصادية والأمنية، فهي كثُر، وظلت تكَشَّر عن أنيابها في وجه شعب السودان منذ إنتصار ثورته المبهرة، ديسمبر/كانون الأول 2018. وهي تحديات تزداد شراسة وتنمرا كلما تعثرت خطواتنا وارتبكت في مشوار الثورة، وكلما تقاعس قادتنا عن التصدي للأولويات، وتعاملوا مع آمال وطموحات الناس بخذلان مبين. ولعل، أشدّ هذه التحديات ألما وقسوة، شعور المواطن بغياب الأمن والأمان، ويقينه بأن بيوت الأشباح لا تزال تعمل، وتتحرك بين الناس بفاعلية، فاغرة فاهها الكريه لتلتهم بنات وأبناء السودان، وتسومهم العذاب حتى الموت، وتؤكد أنها دولة داخل الدولة، إن لم تكن هي الدولة الأصل!. لقد اعتدنا يوميا على سماع أو قراءة الأخبار عن حوادث الاختطاف والاعتقال والتعذيب حتى الموت لمواطنين، وخاصة الشباب. صحيح أننا نسمع عن إنتشار هذه الظاهرة بكثافة في العاصمة، ربما بسبب عامل التركيز الإعلامي، مع توفر الوسائط الاجتماعية وسرعة التعامل معها خاصة وسط الشباب، ولكن الظاهرة متمددة في معظم مدن السودان الأخرى، ويكاد يكون السيناريو الذي تتم به متطابقا في كل الحالات. فالمنفذون دائما مجموعات مسلحة ترتدي أزياء مدنية وتعتلي سيارات مظللة وبدون لوحات، تختطف المغدور من الشارع وتقتاده إلى جهة غير معروفة، بالنسبة لنا على الأقل، ويظل مفقودا لفترة حتى يجده آخرون جثة دامية عليها آثار تعذيب وحشي. والضحايا الشهداء، ليسوا مجرد أرقام وهمية أو مختلقة، بل بأسمائهم وأسرهم وأصدقائهم وأماكن إقامتهم، وبالبلاغات التي تقدمها الأسر إلى الشرطة والنيابة العامة. وإثارة المسألة في هذا الحيز، لا تتعلق بماهية الضحية/الشهيد، وهل هو ناشط سياسي أم عضو لجنة مقاومة، أو لا علاقة له البتة بالسياسة أو العمل العام عموما، بقدر ما تتعلق بكينونته كإنسان ومواطن سوداني من حقه أن يعيش في بلده في أمن وأمان، ومن واجب وحق قيادة البلد السياسية والأمنية عليه، أن توفر له، وليس للخاطفين المجهولين، وهم في الغالب مجهولون النسبة لنا فقط، كل أسباب الرعاية والحماية. ومباشرة، واختصارا، نقول إن الناس ينتظرون إجابة محددة من قيادة البلد. أما إن كان الأمر يتعلق بالنشاط السياسي، وبالخلاف في الرأي والجهر بقول الحق، فهذا أمر آخر سنتناوله في موضع آخر.
المقالات
د.الشفيع خضر يكتب : حتى لا تهزمنا الجبهة الداخلية
التعليقات