اختتمنا مناقشتنا السابقة حول تاريخية الحدود السودانية الإثيوبية، بالتساؤلات المشروعة التي طرحها الدكتور فيصل عبد الرحمن علي طه، خبير القانون الدولي، بشأن طبيعة حقوق ملكية الأراضي في منطقة «الفشقة» على تلك الحدود، وإن كانت قد صدرت عن حيازات أهلية أو قبلية، أو هي مِلكيات تم توثيقها بموجب قوانين تسوية وتسجيل الأراضي؟ وهل لدى أصحابها صكوك رسمية تثبت ذلك؟ وهل كان هناك قانون يحكم عمليات تأجير، أو بيع، أراضي الفشقة للأجانب، أم كانت تتم خارجه؟ وهل كانت تلك العمليات تتم بمعرفة السلطات الحكومية؟ علما بأن دخول هؤلاء الأجانب إلى الأراضي السودانية، يتم في الغالب بدون تأشيرات أو تصاريح دخول، كما أن المنطقة لا يوجد فيها ما يعبّر عن سلطة الدولة السودانية، كمراكز الشرطة أو نقاط التفتيش الحدودية. وفي ذات المقال، ثنينا بقوة إقتراح الدكتور فيصل بتشكيل لجنة تقصي حقائق على أعلى مستوى ممكن، تُمثّل فيها كافة الجهات المدنية والنظامية ذات العلاقة، حتى نتبيّن من تقريرها: كيف سقط قطاع كبير من أراضي الدولة السودانية في أيادٍ أجنبية بكل سلاسة ويسر وبتخطيط وترتيب ظاهر لا خفاء فيه؟ ومن هي الجهة أو الجهات المسؤولة عن ضياع منطقة «الفشقة» أخصب الأراضي الزراعية في السودان وأفريقيا، بكل هذا القدر من اللامبالاة؟ وهو إقتراح مبني على حيثية أن التعدي والتغول الإثيوبي على أراضي السودان، وبهذه الكثافة والانتشار والاستدامة، لا بد أن يكون قد تم وترسّخ خلال عقود من الزمان، الأمر الذي يثير شبهات تواطؤ وتقصير، وربما فساد على المستوى الأهلي أو المحلي أو القومي.
ومواصلة لموضوع ملكية الأرض في المناطق الحدودية بين السودان وإثيوبيا، نشير إلى أن تقارير البنك الدولي كانت تطلق على المزارعين في تلك المناطق، وخاصة مناطق «الفشقة» و«القضارف» و«سَمسَم» إسم «مزارعي حقيبة السفر» (suitcase farmers) لأن أعدادا كبيرة منهم، ومنذ أوائل السبعينيات، درجت على عدم الاستقرار في مزارعهم في الأراضي المطرية، كما درجوا على تعيين وكلاء لهم للإشراف على العمليات الزراعية في كل مراحلها، بدءا من عمليات «الكديب» وهي المرحلة التي تسبق نزول الأمطار والتي تتم فيها نظافة الأرض من آثار زراعة الموسم السابق، واستئجار العماله والتي أغلبها من الإثيوبيين، بعد تقلص أعداد العمالة السودانية بسبب الحرب الأهلية. وفي مرحلة الحصاد، ولأن في المنطقة سعر الصرف حر ووسائل النقل متيسرة، غالبا ما يقوم صاحب الأرض ببيع المحصول إلى الإثيوبيين، وخاصة محصول السمسم، حتى صارت اثيوبيا هي الدولة الثانية بعد السودان في تصدير السمسم الأبيض. ولاحقا، تطور الأمر، وأصبح وكلاء المزارعين، أو ملاك الأرض، يتعاقدون مباشرة مع الممولين والمزارعين الاثيوبيين، وفق عمليات الزراعة التعاقدية.
وفي النهاية، كانت النتيجة أن بدأت تتلاشى خطوط الملكية وخطوط حق الانتفاع. يقول البعض من المهتمين بقضايا الملكية والإستحواذ على الأراضي في السودان، أن المزارعين السودانيين في منطقة الفشقة تهاونوا كثيرا في منع التغول على أراضيهم، بسبب غيابهم شبه الدائم عن تلك الأراضي. فالحدود بين البلدان لا تنتهي، أو تتحدد، بالخرائط والشواهد والعلامات على الأرض، خاصة إذا كانت هذه الأرض زراعية أو أرض مرعى، لأن المواطن المالك صاحب الأرض، يجب عليه التواجد على أرضه لإثبات حقوقه التاريخية، وإلا سيتم التوغل فيها من الآخرين وربما الإستحواذ عليها بوضع اليد، وما دام هؤلاء الآخرون هم من يستصلحونها ويفلحونها ويقومون بكل العمليات الزراعية فيها. وفي ذات السياق، كان لسلطة الإنقاذ ضلع في هذا التهاون، بتقاعسها عن توفير الحماية لتلك الأراضي، وخاصة بعد محاولة إغتيال الرئيس المصري الراحل حسني مبارك في أديس أبابا بتدبير من عناصر من نظام الانقاذ. وبالمناسبة، فإن تقصير الحكومة وتهاون أجهزتها في توفير التمويل والمدخلات الزراعية وتحديد السعر العادل للمحصول، تكرر في عدة مناطق في السودان، مما أدى إلى تدمير الزراعة الآلية، ودفع المزارع إلى التأجير للغير، وممارسة التهريب وغير ذلك من الممارسات الضارة بالاقتصاد الوطني.
وإذا سلمنا جدلا بأن للمزارعين السودانيين الحق في ممارسة الزراعة التعاقدية، ما دام الحكومة السودانية تسمح لهم بذلك، وما دام هي فشلت في الإيفاء بالتزاماتها في توفير التمويل والمدخلات الزراعية، فإن ممارستها مقبول بعيدا عن حدود البلاد مع البلدان المجاورة. أما ممارسة الزراعة التعاقدية مع المزارعين والعمال الإثيوبيين في الفشقة وغيرها من المناطق الحدودية، فتعتبر خرقا للسيادة الوطنية السودانية، لأن الأرض الزراعية والمراعي في المناطق الحدودية جزء من هذه السيادة الوطنية، ولا يجوز التفريط فيها بالحيازة أو الملكية أو الزراعة التعاقدية. ومن ناحية أخرى، لا مجال لإنكار مسألة تهريب المحاصيل والمنتجات الزراعية السودانية إلى إثيوبيا، والتي بدأت ببيع المحصول عبر اثيوبيا، واستغلال العمال، ثم الحصول علي التمويل، واخيرا إيجار الارض، فهذه جميعها، وبكل المقاييس، تفريط في أرض الوطن.
ولأن المزارعين الاثيوبيين المتوغلين في داخل السودان كانوا يستحوذون على الأراضي الزراعية بوضع اليد، فكان لا بد لهم من الاستعانة بالميليشيات، والتي تعرف في المنطقة بإسم «الشفتة». وقد درجت هذه الميليشيات على الهجوم حتي داخل مناطق مشاريع «سَمسَم» متسببين في معاناة المزارعين السودانيين من عدم الاستقرار، خصوصا في فترات نهاية الخريف وأوائل الحصاد. كما ظلت المنطقة تشهد حوادث متكررة من هجوم هذه الميليشيات على الجانب السوداني، في موسم الحصاد، لتأمين ما تم تمويله من مشاريع. وبسبب كل هذه الهجمات، كان لا بد للجيش السوداني أن يتحرك لاسترجاع المشاريع الزراعيه، وبالتالي الاراضي السودانيه، حتي الحدود، وحسنا فعل. لكن، ورغم كل المكتوب أعلاه، فإن إتساع حجم التوترات والمواجهات بين السودان وإثيوبيا، مرفوض تماما، وقطعا ليس فيها أي طرف رابح. ولا بد أن تتحلى قيادت البلدين بأقصى درجات الحيطة والحذر، والحكمة.
التعليقات