(1)
للشيخ الراحل عبد الحميد كشك، الذي اشتهرت خطبه في سبعينيات القرن الماضي بروح المرح والسخرية، مقولة لا تزال عالقة في ذهني وهو يسخر من حالة التعلق في المنطقة العربية في تلك الحقبة بكل ماهو أمريكي، حتى ذاعت كلمة الرئيس السادات الشهيرة “99% من أوراق اللعبة في يد أمريكا” في معرض ترويجه لخيار التسوية السلمية لقضية الشرق الأوسط، فقد حبكت النكتة مع الشيخ كشك، من باب التعريض بموجة الأمركة تلك، وهو يعلق على انتشار مرض يصيب القطن سميّت الجرثومة المتسببة فيها بـ “الدودة الأمريكية”، فطفق يردد في إحدى خطبه ” يا سبحان الله حتى الدودة تأمركت”!!.
(2)
طافت تلك الطرفة المعبرة بدلالتها السياسية بذاكرتي من وقع المتابعة، ربما بشيء من الذهول، لتطورات المشهد الأمريكي الدرامية منذ الانتخاب المفاجئ لدونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة، وطوال حقبته التي تميّزت بالتمرد على تقاليد المؤسسة السياسية الأمريكية العريقة، وحتى خسارته التي لم يتوقعها أمام جو بايدن وما رافق ذلك من تداعيات قادت إلى كابوس لم يكن يتوقع ولا ينتظر أحد حدوثه حين جرى اقتحام قلعة الديمقراطية الأمريكية ورمزها الأكبر “الكونغرس”، فقد شكّل هول ذلك الحدث الصادم لحظة فارقة في تاريخ الديمقراطية الحديثة استفاقت معها نخبة المؤسسية السياسية الأمريكية، ورصيفاتها في الديمقراطيات الغربية على حقيقة صادمة، ذلك أنها المرة الأولى التي لا تجد عدواً خارجياً تلقي عليه اللوم فيما حدث، فقد صنعت بأيدٍ أمريكية قُحة، وليبرز للمرة الأولى مصلح “الإرهاب الداخلي”.
(3)
يبدو الأمر مثيراً للانتباه عند متابعات كبار المسؤولين السابقين المعنيين بفضايا استراتيجية وهم يتحدثون في الوسائط الإعلامية عن اكتشافهم لخلل الكبير في نظرية الأمن القومي المتعلقة بمهدّدات الامن الداخلي المستندة على فكرة جوهرية هي أن الإرهاب بضاعة مستورد من الخارج بامتياز، وعلى ذلك جرى تصميم كل استراتيجية وسياسات وخطط مكافحة الإرهاب على هذا الافتراض المقتصر على تجريم الآخر، وتنزيه الذات من أي شبهة أو حتى نية للدخول في هذه المتاهة، حتى اكتشفت المؤسسة السياسية الأمريكية على حين غرة جنين “الإرهاب المحلي” الذي كان ينمو في أحشاء فضائها الوطني وسط جماعات اليمين المتطرف ودعاة النقاء العرقي، ليضع مولوده المتوحش ذلك اليوم في أقدس مؤسسات الديمقراطية تحت عناية ورعاية الرئيس نفسه، الحارس المفترض لها، لقد انطبقت في ذلك اليوم مقولة الشيخ كشك بكل مفارقتها لتصبح”يا سبحان الله، حتى الإرهاب تأمرك”!!
(4)
وما من دلالة أكبر على سيادة “حالة الإرهاب الذي تأمرك” في ذهن المؤسسة الأمريكية، من تلك التقارير المتواترة عن محاولات التهديد المحتمل لحفل تنصيب الرئيس المنتخب جو بايدن اليوم من قبل جماعات يمينية مسلحة، التي أحالت حفل أداء اليمين الدستورية من يوم شعبي بهيج إلى مناسبة تجرى وسط إجراءات أمنية غير مسبوقة تحولت معها العاصمة واشنطن ومحيطها إلى ثكنة عسكرية انتشر فيها أكثر من عشرين ألفاً من عناصر الحرس الوطني، وثلاثة اضعاف هذا العدد في ولايات أخرى، لتأمين الحدث ومروره بسلام، وتبلغ المفارقة ذراها حين يصل الأمر إلى التحسب من أن يكون الرئيس المنتخب بايدن هدفاً لتهديد من داخل قوات الحرس الوطني نفسها المنوط بها حمايته.
(5)
لا ريب أن هذا الامتحان العصيب الذي تعرضت له ديمقراطية عريقة يهدي للبشرية الكثير من الدروس والعبر، من بينها أن نظم الحكم ليست مثالية بطبعها، فهي اجتهاد بشري مجتمعي يحتاج للتأقلم والتطور باستمرار، وإلا لما كانت التجربة الأمريكية بعد مئتين وخمسين عاماً من الممارسة عرضة لهذه النكسة، ولكن مع ذلك أثبتت أن توفر المؤسسات الراسخة، بدفع بعضها البعض وتوازن سلطاتها، هي الأداة الأكثر فاعلية في مخاطية التحديات الطارئة مهما عظمت، والأكثر قدرة على استعادة استعادة المسار الديمقراطي وتصحيحه.
(6)
والدرس الآخر عبرة تحتاج الولايات المتحدة إلى الاستفادة منها وقد تيقنت أخيراً أن الإرهاب، الذي أبرز أنيابه من بين ظهراني هذه الديمقراطية العريقة، ليست صناعة يحتكر ممارستها دين، أو ثقافة، او مجتمع بعينه، نحو ما ظلت استراتيجيتها لمكافحة الإرهاب تدمغ به الإسلام حصرياً، بل هي وليدة معطيات معينة متى توفرت في أي مجتمع، بغض النظر عن درجة تطوره، فإنه يعبّر عن نفسه عن النحو الذي لا تزال أمريكا تختبر غوائله الآن، وهذا ما يدعو لضرورة إعادة تعريف الظاهرة ومقاربتها من مظلة أوسع أفقاً، وأدعى لتكاتف عالمي في مواجهتها، وقد ثبت أن الإرهاب لا دين، ولا لون، ولا عرق له.

التعليقات