«كرم الطبيعة وبُخل السياسة في شرق السودان» هو العنوان الرئيسي لهذه السلسلة من المقالات، والتي نسطّر فيها مشاهداتنا ونتائج لقاءاتنا خلال زيارتنا لولاية البحر الأحمر في يناير/كانون الثاني الماضي. والعنوان يأتي تعبيرا عن ما رأيناه من مفارقة عجيبة تتلخص في أن ولاية البحر الأحمر غنية بموارد وثروات ضخمة، ومع ذلك تُعتبر من المناطق الأقل نموا والأكثر فقرا في السودان، حيث البنية التحتية والمشاريع التنموية شبه منعدمة، وتتفشى فيها المجاعات والأمراض والأمية.
ومن لقاءاتنا المتعددة مع القيادات المدنية والأهلية في المنطقة، والتي ناقشت مجموعة من التصورات ومقترحات الحلول للقضايا والمشاكل الأساسية في ولاية البحر الأحمر، وإرتباط ذلك بحلول قضايا السودان المركزية، خرجنا بدروس هامة استعرضنا منها في مقالاتنا السابقة ما طرح في من لقاءاتنا مع قيادات البشاريين والعببادة والأمرأر والهدندوة والبني عامر والحباب ونادي البجا. ومواصلة لذلك، نستعرض اليوم لقاءنا مع «غرفة إدارة الأزمة» في رابطة أبناء جبال النوبة بولاية البحر الأحمر، وهي هيئة كونتها الرابطة للتواصل مع مكونات الولاية وجهاتها الرسمية، بهدف إخماد الفتنة وإطفاء نيران النزاعات. والغرفة تتكون من القيادات الأهلية وقيادات المجتمع المدني والمثقفين والناشطين من أبناء النوبة القاطنين ولاية البحر الأحمر.
منذ عشرات العقود، ظلت فضاءات إقليم البحر الأحمر، ومدينة بورتسودان تحديدا، تفتح ذراعيها لتحتضن القادمين إليها من كل مناطق السودان الأخرى، إما تغييرا وتطلعا لحياة جديدة، أو بحثا عن العيش الكريم ونفورا من غياب التنمية وإختلالات توزيع الموارد، أو طلبا للأمن والأمان وهربا من النزاعات والحروب الأهلية، في مناطقهم التي نزحوا منها. ومن ضمن هؤلاء، كان أهلنا النوبة الذين استوطنوا المنطقة منذ عشرات السنين، لكنهم أبدا لم يعيشوا عالة على الموارد المحلية، وإنما شكلوا إضافة لقوة العمل، ولإنتاج القيمة الاقتصادية من خلال العمل العضلي والذهني، خاصة في الميناء، وأصبحوا جزءا من النسيج الاجتماعي، حيث ظلت علاقتهم مع المكونات الأخرى يجللها الوئام والتعايش السلمي إلى أن أطلت الفتنة برأسها. وحدثنا وكيل ناظر قبائل النوبة، إن ما حدث من إقتتال مع البني عامر والحباب، لم يكن بسبب نزاع على أرض أو حواكير أو ماشية، فهذه أصلا غير موجودة، وإنما بسبب فتنة سياسية، تمتد جذورها إلى خارج الإقليم وإلى أزمان بعيدة.

ففي ثمانينات القرن الماضي، كانت قيادات الجبهة الإسلامية القومية تشحن أعضاءها وأنصارها في بورتسودان ضد النوبة بإعتبارهم كفرة وثنيين…! ومع إحكام الإنقاذ قبضتها على البلاد، تفاقمت المشاكل بسبب العطالة وعدم العدالة في فرص العمل، علما بأن بورتسودان كان بها 55 مصنعا، إضافة إلى الخطوط البحرية والسكك الحديدية، وكلها للأسف دمرتها الإنقاذ. بل الإنقاذ سعت إلى بث الفرقة داخل مجموعة النوبة عندما قسّمت الإدارة الأهلية الموحدة إلى نظارتين. كما أن مجموعات الجهاد الإسلامي الإريتري، وهي مجموعات مسلحة، لعبت دورا في تأجيج الصراع والهجوم على النوبة لأسباب عرقية وأيديولوجية. ويتواصل الحديث مع من إلتقيناهم من أعضاء «غرفة إدارة الأزمة» التابعة لرابطة أبناء جبال النوبة في ولاية البحر الأحمر، فيقول أحدهم أنهم لاحظوا محاولات الإنقاذ لتغيير ديموغرافية المدينة، خاصة عندما كان إبراهيم محمود وزيرا للداخلية، كما لاحظوا إستيلاء شركات مرتبطة بالخارج على مفاتيح مواقع الاقتصاد الرئيسية. ويتهم النوبة الإعلام بالعمل على تشويه صورتهم وإختلاق قصص عن فظائع يرتكبها آخرون وتُنسب إلهم. ويقولون أن ثقتهم في الحكومة والأجهزة العدلية والنظامية إهتزت بسبب عدم حيادية بعض هذه الأجهزة، وتقاضيهم عن السلاح الكثيف والمتطور، المتواجد في أيدي الجماعات الأخرى، في حين النوبة لا يملكون أي سلاح. وبسبب ضعف تحريات وكلاء النيابة، وإفلات الجناة الذين إستخدموا السلاح من العقاب، وبسبب أن الحكومة لا تنصفهم، ويتغذى فيهم الإحساس بالدونية وأنهم غرباء وغير مرغوب فيهم في بلدهم، وأن تجاهل الحكومة لمأساتهم يرسب في دواخلهم الغبن والشعور بالإضطهاد. وبعض أعضاء الغرفة توجه بالإنتقاد إلى أبناء شمال السودان، ومنهم مجموعات كبيرة في المدينة، لأنهم لم يتقدموا بأي مبادرة لإخماد الفتنة رغم أن قطاعات واسعة من أبناء النوبة توقعت منهم ذلك. وتشككت إحدى المشاركات في اللقاء من إمكانية إنهاء الأزمة قريبا لأن القبلية مقننة في بورتسودان، وأحياء المدينة السكنية مخططة على أساس قبلي وإثني، مما يجعل من التمازج الإجتماعي أمرا صعبا ولكنه ليس مستحيلا. وأشارت أخرى إلى أن النظام البائد يسعى جاهدا إلى العودة إلى السلطة مستفيدا من أجواء الفتن والتوترات، بل أنه يسعى لتقوية موقفه الانتخابي من خلال الصعود على ظهر بعض المكونات القبلية في الإقليم، مستغلا تقاربة مع بعض قيادات هذه المكونات.
وفي ختام اللقاء، لخص وكيل ناظر قبائل النوبة موقفهم في أن الأزمة لن يحلها وجود بعض أبناء النوبة في مجلس السيادة أو مجلس الوزراء أو حكومة الولاية، فالمسألة أعمق من ذلك بكثير وترتبط بضرورة مخاطبة جذور الأزمة العامة التي يعاني منها السودان، وتجلت في الحرب الأهلية والنزاعات والتوترات القبلية في كل أنحاء البلاد. أما لأجل إخماد نيران الفتنة في الإقليم، فلابد من تنفيذ إجراءات أولية تهيئ الأجواء لإلتئام حوار شامل يدفع بالتعافي المتبادل، لصالح رتق النسيج الإجتماعي وبسط السلام والتعايش بين الأطراف المتنازعة. وهذه الإجراءات الأولية، تشمل نزع السلاح نزعا كاملا وحصر تواجده فقط في القوات النظامية، إكمال التحقيقات وتقديم كل من تسبب في الفتنة إلى العدالة، تقديم التعويضات للمتضررين من كل الأطراف، توجيه الإعلام الرسمي ليلعب دورا إيجابيا في نبذ خطاب العنصرية والكراهية وإتاحة منابره لكل المجموعات دون تمييز، التشدد في عمليات الإختيار للوظائف المختلفة بحيث تكون الكفاءة والمؤهلات هي المعيار الأول، وليس القبيلة أو صلة القرابة، مراجعة الأوراق الثبوتية مثل شهادات الجنسية والرقم الوطني.

التعليقات