العلاقات السودانية الإثيوبية هي حقيقة ثابتة تجعل أي مظهر للخلاف وأي تباين في الآراء والمواقف واي إحتكاك الان وفي المستقبل؛ حتي لو وصل الي مواجهات؛ تجعله أمراً عابراً وعارضاً ومؤقتا؛ ريثما تعلو عليه جسور المنافع والعلاقات الحتمية وتغطي عليه حقائق الحياة المشتركة المتداخلة والقائمة عبر التاريخ والتي أكدتها وحتمت بقائها الجغرافيا والمصالح والفرص الكبيرة الممكنة.
العلاقات بين الشعبين ثابتة ثبات الوجود والأرض المتجاورة والممتدة بلا موانع، وهو ارتباط يؤكده التاريخ الممتد في عمق الوجود الإنساني وما نتج عنه من حضارات واختلاط دماء وتبادل للمصالح والثقافات ويستند علي المعرفة العميقة المتبادلة التي إنتهت الي حالة من الإطمئنان عند كلا الشعبين لبعضهما البعض، وأكده هروب أي منهما تجاه الآخر كلما ضاق الحال باي منهما في جانبي الحدود، وما ظل يجده القادم عند الجار من الترحاب والاحتضان والنجدة وكرم الضيافة ومقاسمة العيش علي ضيقه دون أدنى تأثير لمواقف الحكومات المركزية بالدولتين.
إرادة الله جعلت إثيوبيا كلها هضبة تنحدر منها الأنهار والوديان تجاه السودان، وجعلت أرض السودان هي السهل الذي يستقبل من الهضبة الاثيوبية الحياة، ممثلة في الماء العزب الزلال، وما تحمله السيول الموسمية من الأشجار والأخشاب والطمي وما يحتويه من العناصر المخصبة لأرض السودان.
يشكل الماء القادم من الهضبة الإثيوبية أكثر من تسعين بالمائة من الحجم المائي المكون لنهر النيل. تتدفق مياه الهضبة الإثيوبية في موسم الأمطار منبهلة علي كل شرق السودان ومنتظمة لمدة أطول في العشرات من الخيران والأنهار الموسمية، وباطمئنان نحو الفشقات الكبري والصغري والي أرض البطانة وطوكر والقاش وخشم القربة وولاية القضارف والي جنوب النيل الأزرق وصولاً الي أودية بحر السوباط وكل الوديان في شرق الاستوائية لتصب في بحر الجبل ونهر الزراف، فتشارك بذلك بسهم مقدر في تكوين النيل الأبيض الرافد الثاني الأكبر لنهر النيل.
تمتد الحدود السودانية الاثيوبية لأكثر من ألف وستمائة كيلومتر ظلت في أغلب الأحيان آمنة ومطمئنة لا تحرسها إلا الثقة المتبادلة بين الشعبين، ولا تقف عليها إلا بضع نقاط متباعدة من قوات للشرطة وحرس الحدود كرمز للسيادة وللقيام بالإجراءات الرسمية وضبط حركة الشعبين تجاه بعضهما البعض.
الحقائق المذكورة أعلاه تؤكد بما لا يدع مجالاً لاي شك أو توجس أن العلاقات السودانية الإثيوبية حتمية ولا يمكن صدها، تماماً كما هو حال الماء المنحدر من الهضبة الاثيوبية تجاه السهل السوداني الممتد، واي محاولة لصدها او ايقافها ستكسر أيدي كل من يعمل علي ذلك؛ ولكن يمكن بل يجب تنظيمها واستغلالها علي الوجه الأكمل، بما يتوافق مع حجمها وشكلها وقيمتها وحقائق الجغرافيا والتاريخ والجوار الحتمي وما يتوفر عند الدولتين من موارد مختلفة وقابلة للتكامل.
كل هذه الارتباطات الحتمية تؤكد أن ما يتوفر من الفرص الواسعة للتكامل النافع وللتبادل الاقتصادي المكل لحاجات شعبينا والقائم علي الموارد المتوفرة في الدولتين، لا تتوفر لنا مع أي جار آخر من جيراننا وربما فيما بين أي دولة ودولة أخرى بالعالم.
والدولتان مدعوتان للدخول في أكبر استثمار لهذا الإستعداد الشعبي وهذا التباين في الموارد الطبيعية المكمل لبعضه البعض، من أجل تحقيق أكبر حجم للتبادل التجاري يمكن ان يتم بين اي دولتين جارتين بالعالم. ويمكن ان يتم انجاز ذلكوفي إطار تكامل إقتصادي استراتيجي يمكن أن يفوق حجمه المائة مليار دولار.
إن ما يتوفر من فرص للتكامل في الموارد والحاجات عند الدولتين يتطلب أن تفرد له الدولتين مراكز بحوث ودراسات، وتنظم له الزيارات المتبادلة وتشكل له اللجان العديدة والتي يجب ان ترتقي الي المستوي الوزاري. أي أن تشكل لها وزارة خاصة بالعلاقات البينية عند حكومتي الدولتين (وزير للعلاقات السودانية الاثيوبية، والاثيوبية السودانية).
ويمكنني فقط الاشارة للحقائق الاتية:
١-تتوفر في الدولتين حكومات ديمقراطية ناهضة وتتوفر لهما ارادات شعبية وشبابية نازعة نحو الاستقلال وتحقيق الذات.
٢-تتوفر بالدولتين موارد تختلف عن بعضهما البعض ويمكن أن تتكامل؛ فمثلا أغلب إثيوبيا هضبة صخرية ليس بها أراضي واسعة للزراعة، والسودان سهل كل أرضه تصلح للزراعة. كذلك عدد السكان في السودان مازال قليلاً ومازال يحتاج الي الايدي العاملة لاستغلال موارده الواسعة والمتعددة، وهذا باب للتكامل الزراعي حيث يمكن لاثيوبيا أن توفر الطاقة الكهربائية المائية والايدي العاملة للدخول في زراعة مساحات واسعة بالسودان من خلال شراكات سودانية-اثيوبية ومستثمر اخر ثالث يوفر التمويل اللازم لانتاج اللحوم والحبوب الغذائية التي تحتاجها اثيوبيا لغذاء أكثر من مائة مليون نسمة مرشحين للزيادة ويمكن تصدير الفائص للعالم. ويمكن للسودان في اطار هذا التكامل الاقتصادي أن يؤمن لاثيوبيا حاجتها من الغذاء باسعار تفضيلية، كما يمكن لذلك أن يتم بناءً علي التبادل النوعي بدل التبادل بالعملة الصعبة كما هو الحال في السوق العالمي، أي أن تتعهد إثيوبيا بمد السودان بحاجته الكاملة من الامداد الكهربائي، ويتعهد السودان بدفع قيمة ذلك عينياً، مثلاً أطنان من الذرة واللحوم والحبوب الزيتية في نهاية الموسم الزراعي. وبذلك يسقط السودان واثيوبيا ميزانية ضخمة من العملات الصعبة كانت تحتاجها وترهق ميزنيات الدولتين وتضيق علي الخدمات المقدمة للمواطنين، ويمكن ان توجه تلك الميزانيات لدعم اقتصاد الدولتين والي ترقية خدمات المواطن الاخري في التعليم والصحة ومجالات الرفاة الاخري في الدولتين.
الدولتان يتجاوران بحدود واسعة جداً ويمكن أن تقوم عليها أسواق تجارية ضخمة يتبادل فيها الشعبان المنافع وتمثل نقاط التقاء واستقرار ونهضة حضارية تؤكد استقرار واستمرار المصالح المشتركة.
إثيوبيا ليس لها شواطئ مباشرة علي البحار ويمكن للسودان أن يوفر لها ميناء بحري وطريق بري خاص الي البحر الأحمر يؤمن حركة صادراتها ووارداتها وبشروط تفضيلية تحقق الفوائد والمصالح للدولتين.
ولتاكيد هذه المصالح وحمايتها يجب أن تتشكل اتفاقيات وعهود للدفاع المشترك بين الدولتين من أجل حماية هذه المصالح الاستراتيجية وللدفاع عن الدولتين في حال الإعتداء علي اي منهما من اي دولة اخري. وَن المتوقع ان يثير من هكذا تكامل حفيظة دول اخري كانت تستثمر في ابقاء السودان عاجزاً اقتصادياً وسياسياً ومنقسماً علي نفسه.
اثيوبيا سائرة في اتجاه اقامة السد ولن توقفها قوة عن ذلك ولا تستطيع مصر ضرب السد لان الكلفة السياسية لذلك علي مصر كارثية. ولن تتوقف اثيوبيا عن ملئ السد لان ذلك يحمي السد من الاعتداء. والسد يقوم علي دراسات علمية وانهياره غير وارد. وعلي السودان الا يتحدث بلسان مصر التي تتخذ من الانهيار ذريعة لمعارضة اكمال السد، بل علي السودان تطمين الاثيوبيين وابلاغهم ايتعدادنا للقوف معهم حتي يتم الدخول في علاقات استراتيجية وتكامل اقتصادي تاريخي.
من المنتظر بعد إكتمال قيام سد النهضة الإثيوبي ان يتغير وجه إثيوبيا، إلا أنها ومن المؤكد ستكون في حاجة ماسة لتوسيع اقتصادها وتأمين غذاءها، وأمامها فرص واسعة للدخول في مثل هذا النوع من التكامل مع دول الجوار مثل كينيا وتنزانيا والكنغو وجنوب السودان، إلا أن للسودان ميزات تفضيلية لا تتوفر في غيره من جيران إثيوبيا مما يرجح كفة السودان إذا أحسن السياسي السوداني الاستثمار في العلاقات مع اثيوبيا وعرف الفرص الواسعة.
ولذلك وحتي لا تتجاوزنا اثيوبيا الي غيرنا من جيرانها، فان المطلوب تجاوز المرارات القائمة الآن بسرعة والدخول في حوارات بناءة يجب أن تمهد لها وتسبقها أنشطة شعبية ومجتمعية وخاصة بواسطة القوي السياسية الكبيرة، حتي لا تضطر إثيوبيا للدخول مع شركاء آخرين غيرنا والوقت من ذهب والسد يوشك علي الدخول في انتاج الكهرباء.
ويمكن لذلك أن يتم بناءً علي حجم المصالح الواسعة ووفق إتفاق تعترف إثيوبيا فيه بسيادة السودان علي اراضيه كلها ويتم ترسيم الحدود بشكل نهائي، ويدلف الطرفين للدخول في اتفاقات علي استثمارات مشتركة واسعة للدولتين كما ورد تفصيله سابقا.
ومطلوب أن ينص علي حجم كافي من الامداد الكهربائي يتجاوز العشرة الاف ميقاواط، يأخذ منها السودان حاجته الآنية، ويبقي ما تبقي من حق للسودان يستغله عندما يتوسع حجم اقتصاده مستقبلاً.
في ضوء هذا الشرح فان المطلوب من الإعلام السوداني عامة ومن الحكومة السودانية بشكل خاص، ألا تفجر في الخصومة، حتي لا تنغلق أبواب الخير الكبيرة الممكنة، بل الواجب أن تبدأ الحكومة فوراً في تشكيل اللجان المناسبة لعمل دراسات استراتيجية لتبين هذه المصالح وتضع الخطط والأفكار لها قبل الإنطلاق في الحوارات لتنفيذها بعد زوال سحابة النزاعات العابرة خاصة في وجود وساطات ناشطة هذه الايام بين الدولتين وعلي ضوء تصريحاب رئيس الوزراء الاثيوبي أبي أحمد الإيجابية.

التعليقات