مازالت عقدة مفاوضات سد النهضة تراوح مكانها دون وجود لاختراقات نوعية تؤدي إلى حلول يتراضي عليها الشركاء الثلاثة في المنبع والمصب، ومازال فقدان الثقة بين جميع الأطراف هو سيد الموقف وليس بين اثيوبيا من طرف والسودان ومصر معاً من طرف آخر، كما يروج الجانب المصري؛ وإنما بين أي طرف والآخر من الثلاث دول، مع وجود ميل قلبي مستتر بين السودان واثيوبيا وان تمنعا عن إظهار ذلك في ظل الخلاف على الارض. ومواصلة لما ورد في المقال السابق تحت ذات العنوان نواصل الحديث والرصد لأهم جوانب الموضوع مع التركيز على اهم فوائد السد للسودان وكيفية حصدها.
ترسخت مفاهيم أن أسوأ الانقلابات في السودان كان آخرها وأفضلها كان أولها؛ إلا أن واقع الصراع القائم حول مياه النيل الأزرق وسد النهضة، قد كشف الغطاء عن قائد الإنقلاب الأول الفريق إبراهيم عبود وجعله عارياً بلا ستر. وفي رأي أن الفريق عبود هو الأسوأ بين قادة الانقلابات الناجحة الثلاثة في السودان، ويتحمل الفريق عبود ثلاثة أوزار غير مسبوقة، مثلت سنة سيئة سيجني أوزارها إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. أولها أنه قد شرعن للانقلابات في السودان كوسيلة لتجاوز تعثر واختناق الديمقراطية وغرس بذلك مسماراً مسموماً في جسد الديمقراطية السودانية وادي لاغراء المغامرين والمتهورين من صغار ضباط القوات المسلحة وما ورائهم من قوى وطنية وموامرات أجنبية فأصبحوا يمثلون تهديد مستمر للنظام الديمقراطي، وكان الأولى به كقائد أعلى للقوات المسلحة وأحد رموز السيادة الوطنية أنذاك أن يكون الأحرص على إستقرار النظام الدستوري. فارتكب بذلك جريرة غير مسبوقة أصبحت سنة سيئة ينال وزرها كلما فكر أي فرد بالجيش أو من أي قوي حزبية في ارتكاب حماقة الانقلاب.
وثاني كبائر عبود أنه كان أول انقلابي سوداني خرج على النظام الديمقراطي واجتهد في التأكيد على عدم ملاءمة الديمقراطية للسودان وأسس لأدب الانقلابات وقدم سيناريوهات أصبحت مانفستو لكل انقلابي بعده حتي أصبح للانقلاب أدب وهيكل وكوادر جاهزة من الفاقد الأخلاقي والوطني في كل جيل هم جاهزون للخدمة تحت البوت وارتكاب أسوأ الخدمات والجرائم لارضائه.
وثالثة الأثافي وأسوأ قرار سيادي وطني يتخذه مسئول سوداني منذ عهد مملكة كوش والي الآن واتخذه عبود، كان الموافقة على بناء السد العالي على حدود السودان مع مصر. وهو قرار لا يقف في حد الغباء واللامبالاة وإنما يندرج بعمق في مقام العمالة والحقارة وسوء الأدب. إذ كيف لمسئول أول في أي دولة كاملة السيادة بالعالم أن يوافق على تدمير أرضه ومستقبل شعبه وتحمل كل الآثار الجانبية لسد مياه من أجل عيون دولة أخرى، مهما كانت علاقة دولته بتلك الدولة ومهما كان الاغراء أو الاغواء!!!، هذا إن كان في مصر أصلا خير للسودان يعلمه أو لا يعلمه السودانيون ويشهد به كل العالم!!
ولكم أن تقفوا على بعض أهم سيئات السد العالي. فهو قد شيد تماماً على حدود الدولتين وأصبحت كل الولاية الشمالية هي بحيرة للسد العالي. وكان مقصوداً إغراق الحضارات السودانية الأولى التي سبقت الفراعنة واسست لحضارات البشرية، حتى تنفرد مصر بادعاءتها السياحية التي تتكسب منها الان. وكان مقصودا أن تغمر بحيرة السد العالي الأراضي الخصبة حول نهر النيل في شمال السودان وأن تلتهم كل الجزر بالنيل. وكان مقصوداً تشريد أهل الولاية الشمالية وبالتالي تدمير نصف الاقتصاد الوطني.
وبحيرة السد العالي مازالت في اتساع كل عام وسيبقي اثرها السيئ في تزايدا كل عام وللأبد إذا لم ينتهي السد العالي ويعاد تشييده علي أرض داخل العمق المصري بعيداً عن حدود السودان. ووفر السد العالي لمصر مخزون مائي استراتيجي في بحيرة يتجاوز مخزونها المائة وستين مليار متر مكعب، وهي كمية تكفي مصر مدة خمسة أعوام كاملة حسب استهلاك مصر السنوي من المياه، حتى إذا توقف نهر النيل عن الجريان بشكل تام.
ووفر السد العالي كهرباء دائمة لمصر استغلتها بشكل كامل في تحريك كل ماكينة فيها حتى القطارات بين وداخل المدن وحققت بها النقلات الاقتصادية التي عليها الآن. ووفر السد العالي لمصر منسوب مياه ثابت طول العام مكنها من الزراعة وحركة البواخر النيلية والنقل النهري في كل فصول العام. وبالمقابل لم تفي مصر بأي التزام للسودان وفق ماورد في بنود اتفاق السد العالي على سوئه وبؤس نصيب السودان فيه.
السودان اليوم في ظل حوارات فوائد ومضار السدود على نهر النيل، مطالب بإعادة النظر في الإتفاق الذي أفضى إلى قيام السد العالي بين عبود ومحمد نجيب ومن بعده عبدالناصر، ومطالبة العالم للضغط على مصر والعمل الاستراتيجي الجاد لهدم السد العالي وتدميره، وأن يكون ذلك هدف استراتيجي أهم بالنسبة للدولة السودانية. هناك مصوغات قانونية وموضوعية تدعم موقف السودان في الدعوة لذلك وحتي في ضرب السد العالي في حال عدم موافقة مصر على تشييد سد بديل داخل العمق المصري ووضع نهاية لأضرار السد العالي على السودان.
ومن الأسباب القوية ان من وافق على اتفاقية بناء السد العالي بين مصر والسودان، وهو الفريق عبود، لم يكن يمثل إرادة شعب السودان وقتها لأنه رئيسا انقلابيا على نظام منتخب من الشعب، ويقال أنه كان مخموراً لحظة التوقيع ولم يكن بكامل وعيه، ومن ناحية موضوعية فإن ما وقع من ضرر بليغ على السودان في الستين عام الماضية، يبرر ويحتم بل يوجب علينا الخروج على تلك الاتفاقية الخائبة. وفي حال رفض مصر الاستجابة لمطالب السودان علينا التهديد بضرب السد العالي.
مازالت حكومة السودان القائمة والتي يسيطر على قرارها المركزي المكون العسكري المتامر وفي ظل ضعف رئيس الوزراء وهوانه المشهود، تقع ضحية لسطوة مصر التي لا تهمها الا مصالحها الخاصة، حتى لو أدت تلك المصالح إلى موت كل الشعب السوداني وتدمير ارضه.
هناك موقف يقوم على وعي استراتيجي مركزي عند صانع القرار المصري ثابت عبر الأجيال يقوم على مفهوم أن بقاء مصر ذات فاعلية وقوة مشروط بابقاء السودان ضعيفاً، ولذلك فإن الدولة المصرية توجه الكثير من الإمكانات لإبقاء السودان ضعيفاً، وتوظف في سبيل ذلك أفراد وأحزاب ومجموعات كبيرة. وعلى أي مسئول سوداني أن يكون على حذر تام ووعي وانتباه كامل عند اي تعامل يتطلب التزام وتوقيع لاي اتفاقات مع الدولة المصرية الرسمية.
أما السعة التخزينية لسد النهضة الإثيوبي فهي ٧٤ مليار متر مكعب وتمثل أقل من نصف السعة التخزينية للسد العالي، وهي سعة غير قابلة للزيادة، لانها على أرض محدودة في قمة جبل لا يتسع لأكثر من ذلك الحجم وما زاد سينزل إلى السهل لا محالة ولا يمكن التحكم به. على غير الحال في السد العالي حيث تستطيع مصر أن تزيد في السعة التخزينية كيفما تشاء وبلا أي حذر، لأن كل التخزين داخل السودان ولا يهمها أن تغرق كل الولاية الشمالية، بل يمكن أن تقصد مصر إغراق ما تبقي من أراضي صالحة في الولاية الشمالية حتى يتشرد كل سكان الولاية الشمالية ويقل عددهم ويصبح ميسوراً غزو مصر لشمال السودان بحجة تأمين المياه في بحيرة السد العالي في أي لحظة تريد.
على حكومة السودان أن تشكل مجلس من الخبراء الاستراتيجيين للدراسات في حوض النيل وتتخذ القرارات وفق ما يشير به ذلك المركز عليها. ان حكومة السودان أمام قرارات تاريخية لا تقل أهمية عن الدفاع عن حدود السودان وشعبه بل تتجاوزها إلى الدفاع عن بقاء الوطن أرضاً وشعب، ومطلوب ألا تنطلي عليها الدعاية المصرية هذه الايام كما كانت في اتفاقية بناء السد العالي فتفرط في مصالح السودان الاستراتيجية.
إن مصلحة السودان الاستراتيجية هي مع الاثيوبيين والدولة الإثيوبية وعلى حكومة السودان أن تدلف إلى محادثات مباشرة مع الاثيوبيين تتفق معهم على علاقات استراتيجية تبدأ بالاعتراف بكل مطالبهم في السد واعتراف اثيوبيا بكل الأرض السودانية والتزامهم بمد كهربائي يتجاوز الثلاث الف ميقاواط في مقابل مدهم بالحبوب للغذاء. وعلى السودان الوقوف مع اثيوبيا في موقفها أن أي تهديد لسد النهضة سيتلازم معه تهديد مماثل للسد العالي.
إن التعامل الراقي والعبطي الذي يتعامل به المسئول السوداني مع الحكومات والأنظمة المصرية عبر التاريخ عدا في عهد المهدية؛ هو أكبر خطأ ظل يتكرر ويستمر.. وظل السودان يدفع ثمن ذلك العبط تقطيعا لارضه واحتلال لها من قبل مصر وفقدان لثروات السودان وفقدان لخيارات شعبه في الديمقراطية والوحدة وامتلاك أسباب الاستقرار والقوة التي نحن أكثر تاهيلا لامتلاكها من اي دولة في الإقليم لما نتمتع به من موارد غير محدودة من حيث النوع والكم. على مصر ان تعلم ان السودان دولة مستقلة وذات سيادة وأنها حرة في تحديد خياراتها وفق مصالحها الخاصة.
المقالات
التعليقات