يقولون إن السياسة، كما الطبيعة، تخشى أيضا الفراغ، ولا يهدأ لها بال إلا إذا إمتلأ. وفي الحقيقة لا يوجد فراغ في واقعنا المادي، إلا فراغ تورشيللي، والذي إصطنعه العالم الإيطالي تورشلي في مختبرات الفيزياء. أما خارج أنابيب المختبر، ففراغات الطبيعة إما مليئة بالهواء أو بغيره. والعقل أبدا لا يقبل الفراغ، فهو إما مليء بالأفكار الإيجابية، وإلا ملأته الأفكار السلبية والخزعبلات. وفي السياسة، إذا تراجعت القوى المدنية فإن المساحات الشاغرة ستملأها القوى العسكرية، وإذا غابت أو ضعفت أو تراجعت قوى الثورة والحراك الجماهيري، فإن الفراغات الناتجة ستملأها قوى الثورة المضادة من أنصار القديم ومجموعات المصالح وشراء الذمم ودعاة عودة الشمولية الخانقة. والفراغ المتولد من غياب أو تدني الثقافة والوعي سيؤسس لحالة من الظلامية وخطف الرؤيا المستقبلية، وهكذا لا يوجد فراغ في السياسة، لأن المساحة الشاغرة فورا ستمتلئ.
وفي السودان اليوم، يحدث الفراغ السياسي لعدة عوامل منها خلافات القوى السياسية تسابقا نحو كراسي السلطة غض النظر عن معايير الكفاءة، وإعلاء للمصلحة الحزبية الضيقة والخاصة على حساب مصلحة الوطن، ومنها تسليط سيف الإقصاء وإحتكار القرار السياسي في أيدي القلة، وغياب الشفافية والمحاسبة، وتجاهل صوت المواطن والإستعلاء عليه، وغياب الإرادة وتضعضع الرؤية، والتفريط في شعارات ومتطلبات الثورة، وعدم إنفاذ العدالة وملاحقة المفسدين والمتلاعبين بمعيشة الناس، والتهاون مع أزلام النظام البائد والسماح لهم بالتمدد، لدرجة التراخي تجاه عودة الممارسات التي لفظتها الثورة مثل تحقير المرأة وتفشي خطاب العنصرية والكراهية والعنف. هذه العوامل وغيرها، تدفع بقوى الثورة للانكماش وترك فراغات في السياسة لتملأها القوى المعادية للتغير والتي تريد إيهام الناس بأن ثورتهم كانت غلطة وخطيئة..! وللأسف، الفراغ الآن وصل مرحلة المأسسة، وهي مرحلة بغاية الخطورة بالنسبة للثورة والوطن والمواطن، وجميعنا نتحمل المسؤولية. والخطر الأكبر، أن يعتاد الناس على هذا الواقع، واقع الإبدال والإحلال لملء الفراغ، ما دام الفراغ مستحيلا، لأن النتيجة ستكون أن تأتي أحد صباحاتهم ليكتشفوا أن ثورتهم قد سرقت بالكامل. لكن الكارثة الكبرى، أن يركن الناس للإحباط واليأس فيكتفون بالشكوى أو بتسجيل المواقف للتاريخ وتبرئة للذمة، دون المبادرة بفعل مقاوم، وهذا في نظري مشاركة في الجرم.
ومما ينعش الأمل ويطرد الإحباط، أن بوادر الفعل المقاوم المنشود بدأت تلوح في أفق قوى الثورة، ومن عدة مواقع، كلها تدعو إلى العودة لمنصة الإنطلاق. فبالأمس، توافقت مجموعة من القامات الوطنية السامقة على خطاب موجه إلى قادة الأحزاب وتجمع المهنيين والمنظمات المدنية، مشخصة الداء في مرض الفرقة والخلاف وتغليب المصلحة الحزبية والتنظيمية على المصلحة الوطنية، وتدعوهم أن يتوحدوا ليفلحوا، مقترحة إطارا توحيديا يدعو إلى عودة التنظيمات المغاضبة إلى مظلة قوى الحرية والتغيير، دون قيد أو شرط، وبمبادرات ذاتية، على أن يتم إخضاع هيكلة المظلة ونظامها الأساسي لتقييم وتقويم شامل يزيل ما فيها من ثغرات، ويحصنها ضد سيطرة أي جهة معينة علي حساب الآخرين.

والسعي لإعادة الجبهة الثورية لموقعها في قوى الحرية والتغيير، بإعتبار أنهم في الأساس قوى مدنية اضطرتهم الظروف لحمل السلاح. والإتفاق علي مجلس مركزي يضم ممثلين لكل الموقعين علي وثيقة قوي الحرية والتغيير، ولجنة تنفيذية برئاسة محددة أو دورية، وأمانة عامة ومكاتب تخصصية يجد فيها الجميع أنفسهم كفاعلين في بلورة السياسات، وفي متابعة تنفيذها، وجهاز إعلامي مؤهل يرأسه ناطق رسمي موحَّد ومعتمد. والإسراع بتشكيل المجلس التشريعي على أن يأتي معبرا حقيقيا عن قوى الثورة. وتضمن الخطاب مقترحات هامة أخرى.
ومن موقع آخر، تلمس الكاتب الصحافي وائل محجوب ما ظل يدور وسط مجموعات قوى الثورة، وبلور ذلك في نداء يدعو إلى لملء الفراغ السياسي الراهن بالعودة لمنصة التأسيس لخلق اصطفاف جديد، وعلى أسس جديدة، تحالف يجمع أصحاب المظالم والقضايا العادلة، من مهجرين قسريا وضحايا السدود ومفصولي الصالح العام في الخدمتين المدنية والعسكرية، وتنظيمات الحركة النسائية، وممثلي ضحايا وشهداء العهد البائد، وحتى أسر شهداء ثورة ديسمبر ومفقوديها، مع فصائل الحركة الطلابية، ولجان النقابات الناهضة في تحالف تمتد قواه في كل أنحاء السودان، يلتحم بالقوى الثورية التي قادت الثورة من لجان مقاومة وتجمع مهنيين وخلافها من قوى الثورة، التي اضحت مقصية عن كل المواقع، وانتظامها في جبهة واسعة تمتد في كل انحاء السودان، وتعيد تنظيم الحركة الجماهيرية وفق إعلان سياسي جديد، ووفق استراتيجية نضالية تصطحب كل القضايا وتخوض غمار النضال المدني السلمي لتحقيقها، وفرضها كأجندة سياسية لا يمكن التهرب من إنجازها وتحقيق استحقاقاتها.. ويستعيد التوازن لمصلحة الحركة الجماهيرية، ويملأ هذا الفراغ السياسي الذي تنمو وتتمدد في احشائه قوى الثورة المضادة.
وبالأمس تسارعت نبضات قلب الثورة بإعلان تنسيقية لجان مقاومة الخرطوم شرق بدء التحضير لمؤتمرها العام في خطوة نراها تسير في اتجاه ملء الفراغ السياسي بالمحتوى المطلوب. ونحن إذ ننظر بفرح إلى هذه الخطوة لا نملك إلا أن نوصي بالوحدة وبخطوات مماثلة من التنسيقيات الأخرى. والفعل المقاوم، في نظري، يمكن أن يكون فعلا سياسيا مباشرا، كما هو حال الأمثلة أعلاه، ولكنه أيضا يمكن أن يكون غير مباشر سياسيا، وهذا له قوته الخاصة والفعالة وسريعة النتائج. وشعبنا، وخاصة جيل الشباب، له خبرات في هذا الباب، وعبر مجالات مختلفة، فيها الاجتماعي والخدمي والمطلبي والتوعوي، وفيها الثقافي وكل لوحات الفنون والإبداع، وفيها الإستخدام الواعي لوسائط التواصل الاجتماعي، وفيها رفض أي محاولات للتحكم في حرية الشارع ومحاولات عودة ممارسات النظام العام سيئة الصيت…الخ. علينا جميعا الإنخراط في الفعل المقاوم، المباشر سياسيا، وعلينا جميعا المساهمة في إبتداع أشكال الفعل المقاوم غير المباشر سياسيا، وذلك لملء الفراغ السياسي الراهن، حتى لا يسكنه حثالة الفكر والسياسة.

التعليقات