في سلسلة مقالاتنا عن شرق السودان، كتبنا أن المنطقة تعيش مفارقة عجيبة تعبر بصدق عن كرم الطبيعة تجاه المنطقة، مقابل بخل السياسة وإهمال السياسيين لها. وقلنا إن أساس المفارقة هو تواجد ظاهرتين متناقضتين، تتمثل الأولى في البؤس والفقر والمعاناة، حيث يشتكي إنسان شرق السودان من نصال ونبال تنهش في آدميته وتدميها بسبب إنعدام التنمية والإهمال من قبل ساسة وسياسات حكومات المركز المتعاقبة. أما الظاهرة الثانية، والتي تكاد تفجّرك من الغيظ عندما تنظر إليها مقرونة بالظاهرة الأولى، فتتمثل في غناء المنطقة بجميع أنواع المعادن النفيسة، حيث توفر محلية حلايب الكبرى حوالي 60 في المئة من إيرادات البلاد من الذهب، كما تشتهر المنطقة بكثافة تواجد أجود أنواع الحديد، والحجر الجيري، وثروة حيوانية وسمكية معتبرة، إضافة إلى تمتعها بشاطئ طويل من الموانئ الطبيعية الممتازة. لكن، وكما يقول أهلنا في السودان، «ده كله كوم» وكونه خلجان شواطئ البحر الأحمر في شرق السودان تتمتع بمزايا وأهمية كونية هبةً من الطبيعة، خاصة منطقة خليج دُنقناب المشهورة عند العرب قبل السودانيين كأفضل مناطق زراعة اللؤلؤ، «فهذا كوم آخر»!. ومع ذلك، وعندما ذهبنا لزيارة منطقة إستزراع الأصداف وإنتاج اللؤلؤ، لم نجد أصدافا ولا لؤلؤا، بل وجدنا خرابا وأشلاء يبكي على أطلالها البوم.
وفي مدينة بورتسودان، إلتقينا بالدكتور الأمين محمد الأمين عبد الرحمن، الباحث بمركز أبحاث أسماك البحر الأحمر، والمتخصص في إستزراع الأصداف، وهو أحد الكفاءات القليلة المؤهلة في مجال إنتاج اللؤلؤ، والذي فصل فجأة من العمل في شركة لؤلؤ الخليج، هو وعدد من الكوادر المؤهلة الأخرى، في العام 2002. يقول الدكتور الأمين، السودان يفترض أن يكون رائدا في زراعة اللؤلؤ، لأن ساحل البحر الأحمر الخالي من التلوث مقارنة بالسواحل الأخرى حول العالم، يعتبر من أفضل السواحل لإنتاج اللؤلؤ، علما بأن زراعة اللؤلؤ لا تمنع الأنشطة الأخرى. وبالإستناد إلى حديث الدكتور الأمين، ومجموعة من المصادر الأخرى، تجمعت لدينا المعلومات التاريخية التالية حول زراعة اللؤلؤ في السودان:
في العام 1902/ 1904، أنشئت في خليج دُنقناب أول محطة لزراعة الأصداف البحرية في خليج دنقناب
التي تبعد حوالي 120 كلم شمال بورتسودان، وتأكد أن الخليج صالح لزراعة الأصداف. وفي العام 1922 بدأ تصدير الأصداف، وإستمر إلى أن توقف مع إندلاع الحرب العالمية الثانية. وطوال هذه الفترة لم يكن هناك إنتاج للؤلؤ.
في العام 1958، وبطلب من الحكومة السودانية، أوفدت منظمة الفاو الخبير الأسترالي وليم ريد، إلى خليج دنقناب للمساعدة والتدريب، فقام بإنشاء مزارع الأصداف على طول الخليج الذي كان ولايزال صالحا لزراعة الأصداف، كما كان يدرب الأهالي للقيام بهذا العمل حتى أصبح غالبية سكان المنطقة يتقنونه ويورثونه لأبنائهم.
أما أولى تجارب زراعة اللؤلؤ فبدأت في ستينيات القرن الماضي، وفي العام 1968 تعاقدت الحكومة السودانية مع اليابان على مشروع زراعة اللؤلؤ، لكن العمل توقف عام1969 بعد كارثة الموت الجماعي للأصداف، فأنشئت محطة بحوث أسماك البحر الأحمر في العام 1970 لمعرفة أسباب نفوق الأصداف، وارجعت السبب الرئيس لسوء الإدارة والإهمال وعدم المتابعة. لكن، راجت أقاويل تتهم بقوة الشركة اليابانية والسيد وليم ريد بأن لهما ضلع في الكارثة، وأن نيتهما سيئة!
خلال الفترة 1978/ 1985 وبمساعدة خبراء من كندا، تم إجراء بحوث وتطوير وسائل زراعة الأصداف، وابتعث عدد من الكوادر إلى كندا للتدريب والتأهيل. وفي العام 1985 أنشئت مزارع نموذجية لزراعة الأصداف طبق فيها نظام الحزم التقنية، لكن توقف النشاط بعد إنقلاب الإنقاذ مباشرة في العام 1989، رغم أن الأهالي استمروا في زراعة الأصداف، ولكن على نطاق ضيق ومحدود. وفي أوائل التسعينات وبمساعدة بعض المنظمات المتخصصة، توسعت مزارع الأصداف وعممت على طول ساحل المنطقة بعد أن تم تقصير فترة الاستزراع من 7 سنوات إلى 3 سنوات. ومعروف أن طول فترة الإستزراع كانت المشكل الرئيس بالنسبة لإنتاج اللؤلؤ.
في نهاية العام 1996 تأسست شركة لؤلؤ الخليج بواسطة 4 مستثمرين: سعودي وإماراتي وإيطالي وأسترالي، ووظفت كوادر سودانية مؤهلة، وبدأت في زراعة الأصداف في مساحة 305 كيلومتر مربع. وفي العام 1998 بدأ إنتاج اللؤلؤ واستمر قبل أن يتدهور في العام 2001. وفي العام 2002 فُضت الشركة، وتبقى الإمارتي فقط ودخل في شراكة مع شركة مطاحن الخليج الوطنية. لكن فجأة بدأ فصل الكفاءات من الشركة، وساءت إدارتها، وتدهورت مزارع اللؤلؤ رغم أن كل الظروف الأخرى كانت مواتية، وتقريبا كل الأهالي في المنطقة كانوا يتقنون عملية زراعة الأصداف وإستخراج اللؤلؤ، والتي أصبحت حرفتهم الرئيسية. ومما يثير العجب أن الإنتاج كان شبه سري، حسب محدثنا، وغير معروفة كمياته، وإلى أين يصدر وكيف؟! لكن بعض المصادر تقدر إجمالي الإنتاج خلال هذه الفترة بخمس مليون لؤلؤة. ومن ناحية أخرى، فإن الشركة وعدت الأهالي بتنفيذ مشاريع لتحلية مياه الشرب، لكن ما قامت به إجتماعيا كان أقل من إحتياجات الأهالي بكثير.
وتذهب دراسات متخصصة إلى أن العائدات من إنتاج أصداف اللؤلؤ يمكن أن تصل إلى 600 طن في العام، وتوقعت إدارة الأسماك والأحياء المائية بوزارة الثروة الحيوانية، في تقارير قديمة، أن يبلغ العائد من مشروع استزراع اللؤلؤ على ساحل البحر الأحمر حوالي 50 مليون دولار أمريكي في العام. لكن، الخبير والباحث في إستزراع الأصداف وانتاج اللؤلؤ، مصطفى سعيد الميرفابي، ظل يؤكد في كل كتاباته أن هناك قوى خارجية، لها أذرع داخل السودان، تعمل على تعطيل جميع مشاريع إنتاج اللؤلؤ من خليج دنقناب. والسؤال الملح هنا: لماذا انضمت زراعة اللؤلؤ في السودان الى سائر المشاريع الحيوية المنهارة، وماذا نحن فاعلون؟

التعليقات