تجري الاستعدادات هذه الأيام لعقد مؤتمر نظام الحكم الإقليمي في السودان، أحد استحقاقات إتفاق سلام جوبا الموقع بين حكومة السودان الانتقالية وقوى المعارضة المسلحة. وفي البدء، نشير إلى ضرورة ضبط المصطلحات، حيث تلاحظ أن بعض القيادات في السلطة الانتقالية والقوى السياسية، تتحدث عن مؤتمر نظام الحكم في السودان، وليس الحكم الإقليمي. والمصطلحان، في تقديري، يختلفان، رغم تداخلهما وصعوبة الفصل بينهما، إلا أن الأول أشمل وأوسع ويضم تحته نظام الحكم الإقليمي، كما يتناول مسألة الهيكل الدستوري للدولة، جمهورية رئاسية أم برلمانية أم نظام مختلط، ومن حيث نوع الممارسة الديمقراطية، ونظامها الانتخابي، الملائمين لخصائص واقعنا، ويعبران عن التعددية بنكهة سودانية تجمع بين القيم الكونية للديمقراطية وخصوصيات واقعنا الاجتماعي المحلي، بعيدا عن النقل والنسخ الأعمى لتجارب ديمقراطية وست منستر، أو الديمقراطية الأنجلوساكسونية. والأدب السياسي السوداني تحدث بالتفصيل عن مفهوم إعادة بناء وهيكلة الدولة السودانية، دولة ما بعد الإستقلال، مشيرا إلى ضرورة التوافق على نظام الحكم المناسب الذي يخاطب واقع التعدد الإثني والثقافي في البلاد، ويضمن المشاركة العادلة في السلطة بين مختلف مكونات السودان القومية والعرقية والجهوية، ويشمل ذلك، إضافة إلى نوع النظام (رئاسي، برلماني، مختلط) أيضا إصلاح النظام السياسي الديمقراطي (الأحزاب، النظام الانتخابي، الممارسة البرلمانية، دور النقابات، دور المجتمع المدني…الخ) بما يضمن كسر «الحلقة الشريرة» وإرساء دعائم الاستقرار السياسي، وأن يحقق نظام الحكم أيضا الاقتسام العادل للموارد والثروة بين ذات المكونات القومية والعرقية والجهوية، بمعنى التعامل مع موارد البلاد وخطط التنمية على نحو من شأنه أن يزيل الظلم والاقصاء والإجحاف، ويعطي الأولوية القصوى لمناطق التوتر العرقي والاجتماعي، حيث يعتبر التوزيع غير العادل للثروة والصراع على الموارد من بين الأسباب الرئيسية للحرب الأهلية في السودان، على أن يُقنن كل ذلك في دستور دائم، يتم التوافق على ثوابته، التي تشمل أيضا قضايا علاقة الدين بالدولة وهوية السودان، في مؤتمر قومي دستوري. من المهم جدا التوضيح بأن حديثي أعلاه، لا يعني رفضي لمؤتمر نظام الحكم الإقليمي المزمع عقده أو التقليل من قيمته، بل أراه استحقاقا هاما جدا، ليس لوروده في إتفاقية سلام جوبا وحسب، وإنما لأنه يمثل أحد بنود المؤتمر القومي الدستوري، بإعتباره سيناقش مراجعة التقسيم الإداري وتحديد السلطات والصلاحيات المطلوبة لنظام الحكم الإقليمي في السودان، حسب تصريحات اللجنة التحضيرية للمؤتمر. لكن، ما أثار دهشتنا، ويدفعنا إلى طلب توضيح، قرار الأخ رئيس الوزراء بإعتبار دارفور إقليما وتعيين رئيس له، قبل إنتظار نتائج مؤتمر نظام الحكم الإقليمي…! هذا القرار أثار عندنا مجموعة من الأسئلة، منها: هل أمر العودة إلى نظام الأقاليم محسوم أصلا قبل المؤتمر، أم أن الأمر متعلق بدارفور فقط ولاعتبارات المحاصصة السياسية، وفق إتفاق جوبا، بالنسبة لقادة الحركات المسلحة؟ ما هي السلطات والصلاحيات التي سيتمتع بها إقليم دارفور ورئيسه، حيث لم ترد في قرار التعيين، مقابل سلطات وصلاحيات المركز؟ ألم يكن من الأوفق التروي وحسم الأمر أولا في مؤتمر نظام الحكم الإقليمي ثم وسط القطاعات المختلفة في دارفور نفسها بعد التشاور معها، خاصة وأن الإقليم أصلا ملتهب، ومتوقع ردود أفعال معارضة، على مستوى القاعدة ومستوى الحركات المسلحة المعارضة الأخرى في دارفور؟
عموما، نأمل أن يهتم القائمون على أمر مؤتمر نظام الحكم الإقليمي في السودان بالملاحظات التالية:
عند إجراء التقسيم الإداري، أرى ضرورة أن يركز المؤتمر على إزالة المظالم، وعلى تلمس رغبات السكان بصورة ديمقراطية، وعلى ديمقراطية الحكم اللامركزي، بمعنى أن تتمتع الأطراف بأوسع صلاحيات ممكنة على حساب المركز، مع التوجه مباشرة وبكل وضوح نحو تحديد مضمون هذه السلطات والصلاحيات وتوزيعها بين المركز والأطراف، غض النظر عن الشكل الإداري الذي سيتم التوصل إليه. فالمسألة في نظري ليست في التسميات، وإنما في جوهر المسمىَ، وفي الإبتعاد عن التشويهات الممكنة لأي مسمىَ، حيث لاحظت في هذا الصدد أن البعض يتحدث عن «العودة للنظام الفدرالي» وكأن ما كان إبان الانقاذ لم يكن نظاما فدراليا..!
بعض المناطق، حيث يشتد التوتر والشعور بالغبن، ستحتاج إلى ترتيبات أكثر خصوصية، مثل الإدارة الذاتية وخلافه.
أي تقسيم إداري يتم، يجب أن يراعي مسائل توزيع الثروة والهوية والثقافات المحلية، إضافة إلى إلتزام المركز بأداء واجباته.
لا يمكن اختزال مؤتمر نظام الحكم الإقليمي، وبالطبع المؤتمر القومي الدستوري لاحقا إذا تم..!، في مجرد جلسات نقاش بهدف الاتفاق على اقتسام السلطة السياسية. فهما أكبر من ذلك بكثير جدا، إذ ينطلقان أولا، من الإقرار بحقيقة واقع التعدد والتنوع في السودان من حيث التركيبة السياسية والعرقية والثقافية والدينية …الخ، والإقرار بوجود مظالم حقيقية تعاني منها سائر المناطق المهمشة. وثانيا، هما معنيان بمسألة إعادة بناء الدولة السودانية الحديثة المستندة إلى دستور وقوانين وأنماط حكم تراعي واقع التعدد المشار إليه. وثالثا، هما معنيان بمسألة إزالة أسباب الحرب الأهلية ونشر السلام، مما يهيئ الظروف الملائمة لخلق سودان جديد ينعم فيه كل مواطن، غض النظر عن عرقه أو قبيلته أو ثقافته أو دينه، بالأمن والسلام والرفاهية في ظل وحدة حقيقية مستمدة من الإرادة الحرة لكل أهل السودان، لا مفروضة بالقوة.
ومؤتمر نظام الحكم الإقليمي، وأيضا المؤتمر القومي الدستوري، ينبغي ألا يكونا قاصرين على الأحزاب السياسية والحركات المسلحة وحدها، إذ لا بد أن يشملا كل قطاعات المجتمع الأخرى من تنظيمات العاملين والمزارعين والمرأة والشباب والطلاب والمثقفين والمجتمع المدني، والخبرات والشخصيات الوطنية، وقادة الإدارات الأهلية وزعماء القبائل والعشائر، والمجموعات المطلبية في المركز والأطراف…الخ، وأن تحظى القضايا المطروحة بمناقشات واسعة وسط القواعد الجماهيرية بما في ذلك القرى والأحياء، في إطار المشورة الشعبية، ومن خلال تغطية إعلامية واسعة.
التعليقات