العلاقة بين الأدب وقضية الوطن- أي وطن- علاقة وطيدة لا تقبل التجزئة أبدًا، فحيثما تكون القضية الوطنية، يكون الأدب حاضرًا بأسلحته: القصة والرواية والشعر والنثر، ليكون في طليعة المدافعين عن الشواغل الوطنية، مستعدًا للزود عن الوطن بكل ما أوتي من بلاغة وفصاحة وفن وأسلوب، هذه العلاقة التي دشنها أمير الشعراء أحمد شوقي (1870-1932) في بيته الشعري الخالد:

«وطني لو شغلت بالخلد عنه.. نازعتني إليه في الخلد نفسي»

كثيرون ممن يرصدون العلاقة بين الوطن والأدب، يعدون مقولة أمير الشعراء قاعدة رياضية يمكن من خلالها قياس المسافة بين الأديب وقضايا وطنه، ويحددون مدى تأثيره بحسب تلك المسافة طالت أو قصرت.

ونظرة متعمقة إلى حالة الروائي والكاتب الإريتري الكبير هاشم محمود، سنجد في أعماله الأدبية تحقيقا ملموسا لتلك القاعدة المشار إليها مسبقا، فهو الذي حول قالبه الأدبي على تنوعه شعرا كان أو نثرا إلى منتوج إريتري وطني بامتياز، ربما يكون ذلك هو قدر الأديب، لكن الخصوصية التي يتمتع بها هاشم محمود تكمن في تفرده بتحرير قضية بلاده من المحلية إلى العالمية، أو إن شئت قل “عولمة القضية الإريترية”، وفي ذلك عدة شواهد يمكن استخلاصها من قراءة أعماله من ناحية، ومن قراءة القراءات التي تناولت أعماله بأقلام شتى تنتمي إلى روافد ثقافية متنوعة في بلدان عربية وإفريقية من ناحية أخرى.
ابتداء بالطريق إلى أدال مرورا بتقوربا وشتاء أسمرا وعروجا على عطر البارود ثم الانتحار على أنغام الموسيقى وانتهاء برائعة فجر أيلول، سيكون الوطن ومن ثم القضية الوطنية الإريترية هي جوهر تلك الأعمال ومحورها الرئيس في الخط السردي لهاشم محمود سواء كان في الروايات أو المجموعات القصصية، وتلك ميزة الأديب الأريب المتنوع الذي يجيد الغزل والحبكة وتطويع فنون السرد لخدمة القضية الوطنية، ليحقق بذلك القاعدة على طريقة أمير الشعراء، فهو الأديب الذي حملته الظروف إلى بيئة بعيدة عن بلاده لكن صدره لم يزل يتنفس هواءها، وإبداعه لم يزل يسبح بحمد بلاده التي ستبقى طوال مسيرته الإبداعية عزيزة عليه وإن جارت، كما سيبقى بنو وطنه هم الكرام الذين تزدان بهم أعماله وفصول حكاياته الناطقة بالهوى والهوية الإريترية.
وثمة شاهد ثانٍ يبرز من أعمال هاشم محمود على عولمة قضية بلاده، هو أن ذلك الكاتب المتفرد، يأخذك -مهما كانت جنسيتك- إلى بلاده طيعًا وبشغف تسلم له ذائقتك غير متعثر في سرد غامض، أو بلاغة موغلة في قديم العربية التي يجيد سهلها الممتنع، ولا في التأطير الممل للظواهر والأحداث التي يعج بها أي مجتمع، بالعكس فهو يُلبس قضية وطنه، منذ وطأته أقدام الاستعمار الغاشمة وحتى تحريره في أواخر القرن الفائت، يلبسها ثوبًا عالميًا ذا مقاس مناسب لكل هُوية وعرقية وإن شئت قل ديانة، والسر في ذلك يعود إلى تلك الخلطة السرية التي يتفرد بها هاشم محمود في جُل أعماله عن غيره من الكتاب الأفارقة على نحو عام، والكتاب الإريتريين على نحو خاص، ولعل ذلك الشاهد هو الذي جعل من أعماله- وخلال وقت قصير- تحدث هذا الزخم الكبير من الانتشار والرواج في معارض الكتب، وكذلك في القراءات النقدية الكثيرة التي تناولت أعماله بشكل لم تحظ به أعمال غيره من كُتاب بلاده.
ومن هذا الزخم الذي فرضه أدب هاشم محمود على متابعيه نقادًا كانوا أو قراءً، لا يمكن التغاضي عن خصوصية أخرى تُفسر ما أسميناه «عولمة القضية»، ففي المهجر ذلك الفضاء البعيد الغريب، ستجد روايات هاشم محمود ومجموعاته القصصية في معرض التناول بين الجاليات العربية والإفريقية والمهاجرين، تثير الجدل وتطرح قضية إريتريا ونضالها على موائد النقاش وفي المنتديات الفكرية واقعًا بين المعنيين بالشأن الثقافي الإفريقي، وافتراضيًا على مواقع التواصل الاجتماعي على اختلافها.
ومن المهجر إلى الحواضر العربية والإفريقية، تُخبرك دور النشر التي تطبع أعمال هذا الكاتب الوطني المخضرم، عن الزخم الذي يثيره أدبه في توالي الطبعات من مؤلفاته في معارض ومكتبات القاهرة والإسكندرية والخرطوم وبغداد وعمان والمنامة، وأبوظبي والشارقة وتونس والدار البيضاء ونواكشوط والجزائر، وغيرها، وبالتبعية ما يكتبه النقاد في كبرى الدوريات والمواقع الثقافية من قراءات متعمقة ورؤى مستفيضة لأدب هاشم محمود، حتى حدا بعدد غير قليل من الكتاب والقراء على حد سواء، أن يقروا ويعترفوا أن «أعمال هاشم محمود الأدبية، أطلعتهم على تاريخ إريتريا، وأعطتهم ما يتجاوز الحدث التاريخي إلى التشريح المجتمعي والغوص في أعماق نضال هذا الشعب الإريتري»، وهذا يكفي للتدليل على الدور الذي يضطلع به هاشم محمود في خدمة القضية الإريترية وإخراجها من عباءة المحلية.
لكن الشاهد الأعظم على ماسبق، كانت محطة مهمة في مسيرة هاشم محمود الأدبية، أظنها المحطة التي انطلق منها بنجاح منقطع النظير إلى العالمية محمولا عليها إريتريا أدبا وشعبا وقضية وتاريخا، إنها روايته الموسومة «فجر أيلول»، التي على الرغم من صدورها قبل أشهر قليلة، فإنها أحدثت زخمًا غير مسبوقين لن يقف بالطبع عند عشرات المقالات التي سُطرت مدحًا وتشريحًا ودراسة وتمجيدًا في هذا العمل الكبير، بل سيمتد إلى أكثر من ذلك عندما تترجم هذه الرواية لتلحق بما سبقها من أعمال الكاتب التي ترجمت إلى الإنجليزية والتجرينية، علاوة على مشروعات ترجمة قيد الإنجاز إلى اللغات الفرنسية والإيطالية والألمانية، حسب ما علمت من أحد الناشرين المعنيين بأعمال هاشم محمود.
الخلاصة، أن هاشم محمود الذي كتب الرواية والقصة القصيرة والتاريخ وحتى الأغاني الوطنية، جعل من عالمه السردي ومن ثم المتابعين له، عالمًا كبيرًا في قرية صغيرة تربطها أدواته السردية وأحداث تاريخ بلاده وقضيتها ونضالها وطبيعة شعبها، وأثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه الكاتب المناضل الذي لم يشغله -كما لم يشغل أمير الشعراء من قبل- عن وطنه شاغل، لا العمل في بلد آخر، ولا البعد عن الديار، ولا أي خُلد يخلد فيه، لأن في كل ما سبق ستنازعه نفسه أينما حل ورحل ليقول ويكتب وينادي بإريتريا الوطن والحلم والقضية.

التعليقات