عقب الإعلان عن إقالة رئيس القضاء وقبول إستقالة النائب العام، شهد سودان الثورة، وفي مفارقة عجيبة ومحزنة، حراكا مؤسفا لا نجد وصفا ملائما له سوى أنه إمتداد لممارسات الإنقاذ التي ذبحت العدالة ومؤسساتها، عندما أخضعتها لتحكم قيادات الحزب الحاكم والأجهزة الأمنية.
والعنوان الرئيسي لهذا الحراك المؤسف، هو مواصلة الخدش والتجريح في معنى استقلال القضاء وسيادة حكم القانون، ومحاولات إخضاع مؤسسات العدالة للمناورات السياسية والحزبية، ولا أدري إن كان هولاء يعلمون أن هذا هو أقصر الطرق لإنهيار الدولة. فمباشرة عقب الإقالة والاستقالة، ظهرت لوبيات وحملات توقيعات ونصرة لترشيح هذا أو ذاك للمنصبين، وطفق بعض المتنفذين، ومن يحوم حولهم، يعقدون جلسات الظلام لحياكة من يملأ الشاغريْن، وأعلن ما تبقى من تحالف قوى الحرية والتغيير بعد تشرذمه، الحلف السياسي الحزبي المركزي وليس العاملين في المؤسسات العدلية، أنه بصدد تقديم مرشحيه، مشيعا التخوف من أن يخضع الأمر أيضا للمحاصصة السياسية، كما لم تبخل وسائط التواصل الاجتماعي بتقديم مرشحين ورفض آخرين. بالطبع، من حق أي جهة أن ترشح من تراه مناسبا، لكن القضائية والنيابة العامة لا يتم الترشيح لهما على أساس القبول والرضا بالمرشح لاعتبارات سياسية أو غير سياسية، أو أن المرشح قيادي في أحد أطراف التحالف الحاكم، وإنما الترشيح تحكمه معايير مضمنة في مواثيق وعهود دولية وإقليمية ملزمة.
ويمكن لأي منا التعرف على هذه المعايير في كتيب «المبادئ الدولية المتعلقة بإستقلال ومسؤولية القضاة والمحامين وممثلي النيابة العامة، دليل الممارسين» الطبعة الأولى، جنيف 2007، إعداد اللجنة الدولية للحقوقيين، ويقرأ في صفحة 16 «إن مبدأ الفصل بين السلطات يعد حجر الزاوية بالنسبة لإستقلال وحيادية النظام القضائي». وفي صفحة 22 «عدم خضوع القضاة بشكل تراتبي للسلطة التنفيذية أو التشريعية، وعدم اعتبارهم عاملين مدنيين في هاتين السلطتين….، ووجوب عدم مساءلتهم من قبل الدوائر الحكومية الأخرى، وخاصة السلطة التنفيذية». وحددت الصفحات من 36 إلى 39 معايير وإجراءات تعيين القضاة «وفقا للمؤهل المهني، الكفاءة، الاستقلالية، النزاهة، ومن خلال إجراءات تتسم بالشفافية. وعلى الرغم من أن المعايير الدولية لا تمنع التعيينات التي تقوم بها السلطة التنفيذية أو التشريعية، إلا أنها تؤكد أنه من الأفضل أن يعهد بإختيار القضاة إلى هيئة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية بحيث لا يكون للاعتبارات السياسية أي تدخل أو تأثير في مسار التعيين».
وفي ذات السياق يأتي الحديث عن معايير الاختيار للنائب العام، فنقرأ في صفحة 58 «يتعين على الدول ضمان أن يكون المرشح لشغل وظائف النيابة العامة، ذا نزاهة ومقدرة وحاصلا على تدريبات ومؤهلات ملائمة، وعلى أساس معايير موضوعية بعيدة عن التحيز أو المحاباة، بحيث يستبعد أي تمييز ضد الأشخاص يستند إلى العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي السياسي وغيره من الآراء، أو المنشأ الوطني والاجتماعي، أو الأصل العرقي، أو الملكية، أو المولد، أو الحالة الاقتصادية أو أي وضع آخر». ونفهم من هذا التلخيص، إن معايير الترشيح للقضائية والنيابة العامة، تعتبر جزءا من القانون الدولي، ومحددة بالمؤهل المهني، الكفاءة والقدرة، التدريب الملائم، الاستقلالية المؤسسية والشخصية، والنزاهة. وهذه المعايير هي التي تضمن السير في اتجاه دولة سيادة حكم القانون. وبخلاف ذلك، فإن أي معايير أخرى تتعلق بالترشيح على أسس سياسية، أو المحاصصات، أو الترضيات، أو القبول والرضا عند هذه الفئة أو تلك المجموعة، فإنها ستضمن السير في اتجاه دولة سيادة حكم الفساد والإفساد.
بتاريخ 22 أبريل/نيسان 2020 أجاز الإجتماع المشترك رقم 5 لمجلسي السيادة والوزراء الإنتقاليين قانون «مفوضية إصلاح المنظومة الحقوقية والعدلية لسنة 2020» ووقعه رئيس مجلس السيادة الانتقالي، ونشر في الجريدة الرسمية لجمهورية السودان، العدد 1904، بتاريخ 13 يوليو/تموز 2020. وحسب القانون، فإن المفوضية تهدف إلى إعادة بناء وتطوير المنظومة العدلية والحقوقية وتفكيك بنية التمكين فيها. وعرف القانون المنظومة العدلية والحقوقية بأنها تعني السلطة القضائية، المحكمة الدستورية، النيابة العامة…الخ. كما حدد القانون تشكيل المفوضية بقرار من مجلس الوزراء، وتتكون من: رئيس القضاء، النائب العام، وزير العدل، نقيب المحامين، ممثلين اثنين لكل من السلطة القضائية والنيابة العامة ووزارة العدل ونقابة المحامين، عميدا كلية القانون بجامعتي الخرطوم والنيلين، وستة من القانونيين من ذوي الخبرة والكفاءة من غير العاملين بأجهزة الدولة العدلية والقضائية يختارهم رئيس القضاء والنائب العام ووزير العدل، ويختار كل منهم عضوين.
يومها، غمرتنا السعادة واستبشرنا خيرا بصدور هذا القانون، لأنه أولا حسم الخلافات وتباين الرؤى حول تكوين المفوضية وصلاحياتها. وثانيا، لأن المفوضية، المنشأة بموجب القانون الجديد، ستعيد بناء المنظومة الحقوقية والعدلية التي تعرضت خلال سنوات الانقاذ لتخريب غير مسبوق. وثالثا، لأنه بموجب هذا القانون، سيتم الإصلاح من داخل السلطة القضائية وبواسطتها، بعيدا عن السلطة التنفيذية، عكس ما كان سيكون عليه الحال لو أن الإصلاح تم عبر لجنة إزالة التمكين التي كوّنتها وتقودها السلطة التنفيذية، لأن ذلك كان سيشكل هزيمة مباشرة لمبدأ الفصل بين السلطات.
والآن، آخذين بعين الإعتبار هذا القانون الذي صدر قبل أكثر من عام، لدينا سؤال وإقتراح. الاقتراح سنؤجله للأسبوع القادم. أما السؤال فهو: لماذا، ولأكثر من عام، لم يتم تنفيذ هذا القانون وتشكيل المفوضية حتى تتولى مهمة إصلاح المنظومة القضائية والنيابة العامة وتكوين المحكمة الدستورية، علما بأن كل أعضاء المفوضية المفترضين موجودون ووفق تعيينات ما بعد الثورة؟ وإذا كانت المفوضية مكونة، فلماذا هي غير مفعلة لدرجة تدخل الجهاز التنفيذي/مجلس السيادة في حسم مسألة إقالة رئيس القضاء وإستقالة النائب العام؟ هذا السؤال موجه بالطبع إلى مجلس الوزراء، المشار إليه في القانون، وتحديدا إلى الأخ حمدوك رئيس مجلس الوزراء الانتقالي.
المقالات
التعليقات