عبرنا، من خلال مكتوبنا في الأسبوع الماضي، عن تخوفنا من ذبح العدالة في السودان، بالإستناد إلى عدد من القرائن التي ظلت تتسيد الفترة الإنتقالية، ومن بينها القصور والتباطؤ في تقديم مسؤولي نظام الإنقاذ إلى العدالة الذين إرتكبوا جرائم بحق المواطن كالقتل والتعذيب وبحق الوطن كالفساد ونهب المال العام، فشل حكومة الثورة حتى اللحظة في ضبط مرتكبي جرائم التعذيب والقتل بحق الثوار وشباب لجان المقاومة وتقديمهم إلى العدالة، وعدم ظهور نتائج كل لجان التحقيق في الجرائم والانتهاكات التي حدثت بعد الثورة، الفشل في حسم ظاهرة الإنفلات الأمني وتقديم المتسببين إلى العدالة، إلى غير ذلك من القرائن التي تناقض وبشكل سافر قواعد العدالة، أحد الأضلع الثلاثة لشعار ثورة السودان المجيدة، ومن بينها القاعدة القانونية الذهبية المتمثلة في مبدأ عدم الإفلات من العقاب، والتي كثيرا ما يتم خرقها أو تجاهلها، فلا يقدم إلى العدالة سوى حفنة من الذين كانوا في سدة الحكم وارتكبوا جرائم، أو يتم التراجع من خلال التفاوض بالمسؤولية الجنائية والعدالة في مقابل الوصول إلى حل سياسي للأوضاع المتأزمة غداة التغيرات الكبرى، كما هو حالنا في السودان، ووفق شعارات تدعي الحكمة والعقلانية كشعار عفا الله عما سلف الخادع لظاهرة الإفلات من العقاب، وشعار المصالحة الوطنية الذي يتغاضى عن المساءلة والمحاسبة، في حين أن أي مصالحة وطنية حقيقية تبدأ بتقديم كل من إرتكب جرما في حق الوطن والمواطن إلى العدالة.
فالقانون «مثل الموت… لا يستثني أحدا» كما قال صاحب نظرية الفصل بين السلطات، القاضي والفيلسوف الفرنسي شارل لوي دي سيكوند المعروف باسم مونتيسكيو (1689 ـ 1755).
ومن القرائن الأخرى التي دفعتنا إلى القول بالتخوف من ذبح العدالة في بلادنا، تباطؤ الحكومة الإنتقالية في تنفيذ الإصلاحات الضرورية والمطلوبة في القطاعين الأمني والعسكري، وفي المنظومة العدلية والحقوقية، وجميعها طالها التخريب والتشويه والتسييس في عهد الإنقاذ. وكنا في مقالنا السابق قد ركزنا على مسألة إختيار البديل لرئيس القضاء والنائب العام، بعد إقالة الأول وإستقالة الثاني، والربكة التي صاحبت ذلك وانعكست في تباري الناس، عبر الصحف والوسائط، في تحسين صورة هذا المرشح وتشويه صورة الآخر، في ممارسة لا تليق بهذه المنظومة الحساسة المناط بها حماية سيادة حكم القانون. ونوهنا في ذات المقال إلى أن الحكومة الإنتقالية أجازت ونشرت في العام 2020 قانون «مفوضية إصلاح المنظومة الحقوقية والعدلية لسنة 2020» والذي حدد مهام المفوضية في إعادة بناء وتطوير منظومات القضائية والمحكمة الدستورية والنيابة العامة…الخ، وتفكيك بنية التمكين فيها، كما خوّل لمجلس الوزراء تكوين المفوضية وفق تشكيل محدد نص عليه القانون.
وفي ختام مكتوبنا قلنا لدينا اقتراح سنؤجل طرحه، لكنا تقدمنا بسؤال يقول: لماذا، ولأكثر من عام، لم يتم تنفيذ قانون المفوضية وتشكيلها حتى تتولى مهمة إصلاح القضائية والنيابة العامة وتكوين المحكمة الدستورية؟ أما إذا كانت المفوضية مكونة، فلماذا تسمح بتدخل مجلس السيادة في حسم مسألة إقالة رئيس القضاء وإستقالة النائب العام؟. ووجهنا سؤالنا هذا إلى مجلس الوزراء، باعتباره الجهة المنفذة وفق نص القانون. وذات هذا السؤال طرحته الجماهير، لكن بلغة أكثر ثورية، في موكبها الهادر يوم الخميس الماضي مطالبا بالعدالة والقصاص للشهداء، والذي توقف أمام مجلس الوزراء والنيابة العامة في إشارة لها دلالاتها.
أما تأجيلنا للإقتراح، فلسببين، أحدهما شكلي والآخر موضوعي. فمن ناحية الشكل كان التأجيل بسبب المساحة وعدد الكلمات التي نتقيد ونلتزم بها أمام إدارة الصحيفة. أما من ناحية الموضوع، فلمجرد الحلم بأن مجلس الوزراء ربما يجيب على السؤال ويغنينا عن اللااقتراح، وهو ما لم يحدث حتى اللحظة، وأصلا لم يكن توقعنا للإجابة كبيرا. وبالمناسبة، نحن لن نمل تكرار السؤال والطرق على ذات الموضوع في عدة مقالات قادمة، فالكتابة هي سلاحنا. أما الجماهير التي طرحت السؤال عدة مرات من قبل، آخرها الخميس الماضي، فتمتلك أسلحة أخرى، ولا أعتقد أنها ستكتفي بتواصل تكرار طرح السؤال، بل في الغالب، وإذا لم تتم الإستجابة لمطالبها وسؤالها، ستأتي بفعل نوعي تشتهر به وتجيده ودائما ما ينجح.
أما إقتراحنا فيتلخص في أن يشكل مجلس الوزراء، بالاستناد إلى الوثيقة الدستورية والقانون المجاز، مفوضية إنتقالية مؤقتة لإصلاح المنظومة الحقوقية والعدلية، على النحو التالي: أقدم القضاة وأعلاهم تراتبية ما دام رئيس القضاء غير موجود، النائب العام المكلف الحالي، وزير العدل، نقيب المحامين المكلف من قبل لجنة تسيير النقابة، ممثلين اثنين لكل من السلطة القضائية والنيابة العامة ووزارة العدل ونقابة المحامين، عميدا كلية القانون بجامعتي الخرطوم والنيلين، وستة من القانونيين من ذوي الخبرة والكفاءة من غير العاملين بأجهزة الدولة العدلية والقضائية يختارهم أقدم القضاة المشار إليه أعلاه والنائب العام المكلف ووزير العدل، ويختار كل منهم عضوين. وتتولى المفوضية المؤقتة هذه اختيار رئيس القضاء والنائب العام، بعد التشاور الواسع مع مختلف المنتسبين للأجهزة العدلية من قضاة ونيابة عامة ومحامين.
وفور إختيار رئيس القضاء والنائب العام تحل المفوضية المؤقتة ويعاد نشكيل المفوضية الدائمة فورا بقرار من مجلس الوزراء، وفق ما نص عليه القانون، ومن ثم تتولى تنفيذ مهام إصلاح وإعادة بناء المنظومة العدلية والقانونية، أحد مطالب الثورة الرئيسية.
أدرك تماما أن هذا الإقتراح قد يكون مليئا بالثغرات القانونية وخلافها، فأنا لست متدربا في مجال القانون، وإطلاعي على قضاياه من باب الثقافة العامة، ولكن الذي متأكد منه تماما، أن الإقتراح يمكن أن يتولد عنه إقتراح أكثر جودة، وفي كل الأحوال فإن الإقتراح ومولوداته، سيكون أفضل بعشرات المرات من إختيار رئيس قضاء أو نائب عام وفق اعتبارات سياسية أو لمصلحة من يود حصر رؤية العدالة داخل مجاله البصري هو فقط.

التعليقات