في العام 2015 صدرت الطبعة العربية الأولى من كتاب «لماذا تفشل الأمم؟ أصول السلطة والازدهار والفقر» والذي تشارك في تأليفه إثنان من أشهر علماء الاقتصاد في العالم هما دارن أسيموجلو و جيمس أ. روبنسون. ناقش المؤلفان سؤالا رئيسيا حول السبب الذي يجعل بعض البلدان غنية ناجحة، بينما البعض الآخر منها فقيرة وفاشلة.

وبعد فحص دقيق ودراسة عميقة لأحوال السياسة والاقتصاد في عدد من البلدان في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، ومن ضمنها السودان، يجيب المؤلفان بأن المؤسسات التي يقيمها الإنسان، وليس الجغرافيا أو التاريخ أو طبيعة الأرض أو العقيدة التي كان يدين بها الأجداد، هي التي تحدد ما إذا كانت دولة ما تصبح غنية أم فقيرة، وأن الدول تنجو من من شبح الفقر فقط عندما تمتلك مؤسسات إقتصادية فاعلة. وأن الدول عندما يكون لديها نظام سياسي تعددي، وتحتضن منافسة نزيهة لأجل الفوز بالسلطة السياسية، وترعى قطاعا عريضا من جمهور الناخبين وإنفتاحا وإستعدادا لتقبل زعماء سياسيين جدد، ففي هذه الحالة من المحتمل، بدرجة كبيرة، أن تبني المؤسسات الصحيحة. أما الدول التي تُقمع فيها التعددية وتُحتكر فيها السياسة من خلال مؤسسات سياسية إستحواذية، فالنتيجة دائما ميلاد مؤسسات اقتصادية استحواذية تحتكر الاقتصاد وإستخلاص الثروات والموارد، ولا تخلق الحوافز والفرص اللازمة لكي يمارس ألأفراد الإدخار والإستثمار والإبتكار. والمحصلة النهائية هي توقف عجلة التطور في هذه الدول وإنحدارها نحو الفشل. وعلى الرغم من إختلاف تفاصيل المؤسسات الإستحواذية السياسية والاقتصادية بسبب إختلاف الظروف في هذا البلد أو ذاك، إلا أنها تظل دائما تمثل جذور هذا الفشل.

ومن خلال دراسة العديد من النماذج، يكتشف المؤلفان أن فشل الدول يتخذ شكل غياب ما يكفي من النشاط الاقتصادي، وذلك لأن النخب السياسية الحاكمة، إضافة إلى إستحواذها على الموارد والثروات، تقمع أي نوع من النشاط الاقتصادي المستقل الذي يشكل تهديدا لهم وللنخب الاقتصادية. وفي بعض الحالات تُمهد المؤسسات الاستحواذية الطريق لفشل الدولة بالكامل وتدمير ليس فقط القانون والنظام، ولكن أيضا الحوافز الاقتصادية الأساسية، مما يسفر عن حدوث ركود اقتصادي وحروب أهلية ونزوح جماعي ومجاعات وأوبئة، كما أوضح لنا التاريخ المعاصر في العديد من البلدان مثل زيمبابوي، وسيراليون، وتشاد، والكمرون، وليبريا، وهاييتي، والسودان. ومعظم هذه البلدان، السودان نموذجا، أصبحت اليوم أكثر فقرا مما كانت عليه في ستينيات القرن العشرين.

حيح هناك إختلافات ملحوظة بين هذه الدول، فبعضها إستوائي، والبعض الآخر في المناطق المعتدلة مناخيا، وبعضها كان من المستعمرات البريطانية وأخرى كانت مستعمرات فرنسية، وتختلف فيما بينها إلى حد كبير في التاريخ واللغة والثقافة… لكن، الشيء الوحيد بينها هو خضوعها للمؤسسات التي تحتكر السياسة والاقتصاد. وفي جميع هذه الحالات، نجد أن أساس هذه المؤسسات الإستحواذية يتمثل في نخبة تقوم بتشكيل طبيعة المؤسسات الاقتصادية من أجل إثراء نفسها وإستدامة قوتها وسلطتها على حساب الغالبية العظمى من الشعب. صحيح أن الإختلاف في التاريخ والتركيبة الإجتماعية في هذه البدان أدى إلى إختلافات وفوارق في طبيعة النخب المسيطرة وتفاصيل المؤسسات الإستحواذية، لكن الآثار التي تتركها هذه المؤسسات في إفقار مواطنيها تعد متشابهة حتى ولو إختلفت حدتها.

إن الإصلاحات الاقتصادية وفق «روشتات» المؤسسات المالية الدولية، البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، تهدف إلى تحرير الأسواق وتقليص دور الدولة في الاقتصاد. وتمثل خصخصة القطاع العام والأصول المملوكة للدولة، الركيزة الأساسية لروشتات هذه المؤسسات في كل مكان. لكن، في معظم البلدان التي نفذت هذه الإصلاحات، بدلا من أن يؤدي برنامج الخصخصة إلى زيادة التنافس الحر، حوّل ببساطة إحتكار الدولة لأصول القطاع العام إلى إحتكارها بواسطة رجال الأعمال و«البزنس» المرتبطين بالسياسة وبالنخب السياسية الحاكمة التي نفذت برنامج الخصخصة. أما المعونات الخارجية، فيقول عنها الكتاب أنها لا تمثل وسيلة فعالة للتعامل مع فشل الأمم حول العالم اليوم في ظل وجود أنظمة سياسية غير ديمقراطية، أو حتى في ظل وجود أنظمة ديمقراطية، لكنها لا تولي العناية الكافية والضرورية لإصلاح المؤسسات الاقتصادية في بلدانها، أيضا السودان نموذجا. وعلى خلاف ذلك تماما، وحتى تأتي المعونات الخارجية أُكلها، تحتاج الأمم إلى بناء مؤسسات سياسية واقتصادية شاملة وديمقراطية للخروج من دورة الفقر، وأن المعونات الخارجية يمكن عادة أن تقدم القليل في هذا الصدد، لكن بالتأكيد ليس من خلال الطريقة التي يتم إتباعها في الوقت الراهن. إن إدراك ومعرفة جذور حالة عدم المساواة والفقر التي تسود العالم يعد أمرا هاما حتى لا نبني آمالنا على وعود زائفة. وحيث أن تلك الجذور تكمن في المؤسسات، فإن الدعم الخارجي والمعونات من الدول المانحة والمؤسسات المالية الدولية، في ظل المؤسسات الاستحواذية الموجودة في الدول المستقبلة لهذه المعونات، لن تقدم الكثير لتحقيق نمو مستدام. ومن جانب آخر، فإن إستخدام الدعم الخارجي، ولو بصورة جزئية، من أجل تسريع بناء المؤسسات السياسية والاقتصادية الديمقراطية الشاملة، سيكون مفيدا ونافعا. أما المعونات المشروطة والتي تفرض على الحكام تقديم تنازلات، فلا تمثل الحل. وكفكرة أفضل ربما يمكن تطبيقها في المستقبل، يطرح المؤلفان إعادة هيكلة نظام المعونات الخارجية بحيث يقوم على استخدامها وإدارتها مجموعات وقادة لا تربطهم علاقة بالسلطة، ويعملون على إدارة عملية صنع القرار وتمكين قطاع واسع من السكان.

ويستنتج الكتاب، أن حل الفشل السياسي والاقتصادي للأمم اليوم، يكمن في تحويل مؤسسات إحتكار السياسة ومؤسسات إحتكار الاقتصاد المستخلصة للثروات إلى مؤسسات ديمقراطية شاملة، إما من خلال تطوير بعض العناصر الديمقراطية الشاملة الموجودة مسبقا في هذه المؤسسات، أو عبر تنظيم تحالفات واسعة تقود الكفاح ضد النظام القائم بهدف تغييره وبناء نظام سياسي ديمقراطي تعددي يمتلك مؤسسات اقتصادية ديمقراطية وفاعلة.

التعليقات