تباينت ردود الأفعال، ما بين رافض ومؤيد داعم ومتشكك ناقد، تجاه المبادرة التي قدمها الدكتور حمدوك، رئيس الوزراء، بعنوان «الأزمة الوطنية وقضايا الانتقال، الطريق إلى الأمام».
الرفض، في نظرنا، موقف عبثي سالب. فالرجل قدم إجتهادا دعا فيه الجميع للعمل معا من أجل الخروج بالبلاد من أزمتها الراهنة والمتمكنة، ولا يمكن لأي عاقل أن يرفض ذلك. والمؤيدون الداعمون إعتبروا المبادرة نقطة إنطلاق نحو الإصلاح، ودعوا لتكثيف الجهود وتوفير الآليات الملائمة لإنجاحها.
أما المتشككون الناقدون فإعتبروا المبادرة محاولة إلتفاف على المسببات الحقيقية للأزمة، فشل الحكومة الإنتقالية لأكثر من عامين في إنجاز مهام الإنتقال الرئيسية، وأنها لا تضيف جديدا لأن ما تطرحه مضمن أصلا في الوثيقة الدستورية، وأن كل النقاط التي حملتها المبادرة هي من صميم واجبات رئيس الوزراء بوصفه المسؤول التنفيذي الأول، مسنودا بتفويض شعبي كاسح وغير مسبوق، لكنه ركل هذا التفويض، وضرب أسوارا عالية من حوله أبعدته عن نبض الشارع. وفيهم من ذهب أبعد من ذلك، فيقول أن موقف حمدوك الشخصي منذ توليه المسؤولية ظل رخوا وهلاميا ومحاطا بجدار سميك من الغموض، وهو شريك أصيل في كل الذي شكا منه في خطابه وضمنه مبادرته، لكنه يتحدث عن إخفاقات الفترة الماضية وكأنه لم يكن رئيس الوزراء طيلة هذه الفترة، وكأنه يُلقي الخلل واللوم على عاتق آخرين..!
واعتبر آخرون أن من الغرابة أن يدعو دكتور حمدوك، وهو رئيس الحكومة بكامل الصلاحيات، إلى «تقوية توجه الحكومة والدولة الذي يقوم على الإنتاج المحلي وحماية الفقراء والمستضعفين والتعاون مع المؤسسات الدولية»…الخ. وشخصيا، وعلى الرغم من قناعتي بموضوعية الكثير مما أتى به المتشككون الناقدون، إلا أني أضع نفسي من ضمن زمرة المؤيدين الداعمين، بحذر ورؤية ناقدة وليس تطبيلا أجوفا، لما جاء في خطاب د. حمدوك، وأدعو إلى التعامل الإيجابي مع المبادرة، بمعنى التفاعل العملي مع مقاصدها ومراميها، بدلا عن التعامل السالب الذي يكتفي بطرح الأسئلة غير المفيدة، أو يلجأ إلى التعليقات الكسولة، أو يتوقف عند الانتقادات والاستنتاجات من شاكلة أن الخطاب تبريري يحاول فيه رئيس الوزراء التنصل عن دوره في الفشل، وتحميل الآخرين المسؤولية.
صحيح أن الخطاب عدد قضايا ومهام الإنتقال المعروفة والتي كان يفترض أن تتصدى لها الحكومة، لكن يحسب له تقدمه خطوة إلى الأمام في إتجاه الشفافية والبحث عن حلول بمشاركة القاعدة الجماهيرية، وإن كنت أرى كان من الأفضل لو تقدم الخطاب خطوتين أو ثلاثة عبر طرح خارطة طريق أو برنامج عمل محدد لكيفية خروج البلاد من عنق الزجاجة، إذ بدون هذا البرنامج العملي سيكون الخطاب أشبه بالمقال. آمل أن يكون إجتماع الحكومة المغلق والذي إستمر لثلاثة أيام حتى لحظة تسطير هذا المكتوب، قد تدارك هذا الأمر وفصّل ما جاء في الخطاب في برنامج عمل محدد وقرارات عملية ملموسة، آخذا في الإعتبار أداء الحكومة وأجهزة الإنتقال خلال الفترة الماضية منذ تشكيلها. من جانبي، سأسخّر مقالاتي القادمة لتناول ما جاء في الخطاب، لا بمجرد التعليق وإبداء الملاحظات، وإنما بتقديم مقترحات حيال كل قضية من القضايا المطروحة في الخطاب/ المبادرة. ولأنني درجت، منذ بداية الفترة الإنتقالية، على التعامل وفق هذا المنهج، منهج تقديم الاقتراحات والبدائل، فقد يلاحظ القارئ تكرار بعض المقترحات التي طرحناها من قبل في مقالاتنا السابقة.
وقبل الدخول في تفاصيل المقترحات، نكرر ما تناولناه في مقالات سابقة حول حاسمية عنصري الإرادة والإدارة. فإن تحقيق أي رؤية وتنفيذ أي مقترحات وبدائل، لن يتأتيا إلا متى ما توفرت قوة الإرادة وفنون الإدارة، مجتمعتين معا، ومن الواضح أننا نعاني، على مستوى القيادات والنخب السياسية في الحكم وخارجه، من نقص في هذين العنصرين الرئيسيين. وكما لاحظت في مقال سابق، مع أن الفرق يبدو بسيطا فى تبادل موقع حرف الدال مع موقع حرف الراء بين كلمتي إرادة وإدارة، إلا أنه كبير فى المعنى، علما بأن معنى كل منهما مكمل للآخر. فالإرادة هي الرغبة والثقة في القدرة على الإنجاز، هي الدينمو المحرك والقوة الدافعة لحراك التغيير، هي العنصر الأهم في تأسيس الفعل السياسي بعيدا عن الانفعال، وهي الترياق الفعال ضد سموم الفشل والإحباط والخيبات، يتحصن بها الفاعلون السياسيون، خاصة الحكام منهم، ويستشعرون بها أهمية وجودهم وحيوية دورهم وإمكانية إنتصارهم في معركة التغيير.
أما الإدارة، فهي فن وعلم الكيف، وهي ضرورة حتمية، متممة ومكملة، لمشوار التغيير. فنحن، مهما إمتلكنا من إرادة قوية وحقيقية، فهذا فقط نصف الطريق إلى التغيير، ولن نصل إلى نهاياته المرجوة إلا بإمتلاكنا ناصية علم الإدارة وفنونها الناجحة.
وأعتقد أن قوة الإرادة وفنون الإدارة توفرا في الحراك الشعبي إبان هبة ديسمبر/كانون الأول 2018 لذلك نجح في الوصول إلى مربع النهايات الأولى، مربع «تسقط بس» وسلم الراية لقيادة الفترة الإنتقالية لمواصلة المسيرة إلى بقية المربعات. لكن مسيرتها ظل يشوبها التعثر والإرتباك، غالبا لأن هناك ثمة خللا ما في تواجد وإستقرار عنصري الإرادة والإدارة في أجهزة الفترة الإنتقالية.
أعتقد أن قيادة الفترة الإنتقالية، وقيادات الحراك الجماهيري، جميعها تحتاج إلى وقفة مراجعة وتقييم وتقويم، لا لمجرد إبراء الذمة، ولا لتبرير الإخفاقات، ولا لشخصنة القضايا وتحميل الوزر لهذا المسؤول أو ذاك، وإنما بهدف تفريق أي شحنات سالبة، ساكنة في القيادة مجتمعة، والتزود بمحفزات وطاقة إيجابية تقوي من شأن الإرادة والإدارة، لتتبدى في مكاشفة شفافة مع الناس حول ما تم وما لم يتم ولماذا، وفي إتخاذ قرارات مدروسة لصالح المزيد من الكفاءة والفعالية، ولصالح إزالة المعوقات، ممارسة كانت أم أشخاصا ثبت تدني كفاءتهم. بهذا المدخل ندلف لتناول المقترحات بدءا من مقالنا القادم.

التعليقات