فور إطلاق الأخ رئيس الوزراء، لمبادرته «الأزمة الوطنية وقضايا الانتقال، الطريق إلى الأمام» أعلنا تأييدنا ودعمنا لها، ودعونا إلى التعامل الإيجابي معها وتكثيف الجهود وتوفير الآليات الملائمة لإنجاحها بدلا عن الموقف السالب الذي يكتفي بطرح الأسئلة، أو يلجأ إلى التعليقات الكسولة، أو يتوقف عند الإنتقادات دون تقديم البدائل. وفي هذا الصدد، تقدمنا بجملة من المقترحات، وصل عددها الى ثمانية وسنواصل، علها تساهم في تحفيز المسؤولين التنفيذيين، وعلى رأسهم الأخ رئيس الوزراء، للتقدم إلى الأمام وتحويل المبادرة إلى برنامج عمل محكم ومجدول وقابل للتنفيذ وفق مواقيت محددة.
المبادرة أُطلقت قبل شهر ونصف، ولكنا حتى اللحظة لا نلمس نتائجا، وإذا استمر الوضع هكذا، فكل ما أخشاه أن تذهب مبادرة رئيس الوزراء أدراج الرياح، وللأسف كل المؤشرات تُنبي بذلك ما لم يتم تدارك الأمر. وفي الحقيقة، اذا تواصل الأداء المتدني الحالي لأجهزة الفترة الإنتقالية، وتراكمت الملفات دون تنفيذ، وظلت مهام الفترة الإنتقالية حبيسة الوثيقة الدستورية، وإذا تواصل التشاكس بين القوى السياسية وساد الإقصاء والتخوين، وسيستمر، ما دام المعيار هو المصلحة الحزبية وليس مصلحة الوطن، وإذا تواصل مسار الفشل، أو التلكؤ، في تكوين المفوضيات المناط بها إستعادة الدولة التي إختطفها النظام المخلوع، وتحقيق قومية ولا حزبية كل أجهزة الدولة، المدنية والعسكرية، وضمان فعاليتها وكفاءتها، وإذا إستمرت اللامبالاة العجيبة تجاه تكوين المفوضيات القومية المستقلة المختصة بإرساء لبنات ودعائم إستدامة السلام وترسيخ التحول الديمقراطي وتحقيق سيادة حكم القانون، وإذا تباطأنا أكثر من ذلك في الشروع في التحضير لعقد المؤتمر القومي الدستوري المناط به حسم قضايا إعادة بناء دولة السودان على أساس التوافق وإحترام التعدد والتنوع، وإذا لم تتعامل الحكومة بالسرعة والجدية المطلوبتين والضرورتين تجاه المطالب الإقليمية والجهوية، ونزع فتيل التوتر والإشتعال، خاصة في شرق السودان، وإذا واصل الوضع الإقتصادي تدهوره، وتفاقم الغلاء الفاحش، وساد شظف العيش وضاقت معيشة الناس حد الفاقة، وإذا لم نبتدئ الآن وفورا في مناقشة أي نظام انتخابي ننشد، وأي قانون انتخابي يمكننا تبنيه، وما هو محتوى النظام الديمقراطي الملائم لبلادنا…..، إذا حدث كل ذلك، فإن الخطر الماحق يتهدد الفترة الإنتقالية. والسيناريو المتوقع، والذي بدأت ملامحه تتضح شيئا فشيئا، وأخذت الأصوات المنادية به تعلو، هو الدعوى لقيام الانتخابات المبكرة وقبل استكمال مهام الفترة الإنتقالية.
وفي هذه الحالة، سيذهب الناس إلى انتخابات دون إستعداد من جانبهم ولا من جانب القوى السياسي المضعضعة والمنهكة القوى، وسنأتي بنظام، نعم منتخب، ولكنه يحمل بذور الفشل في داخله، مثل بقية الأنظمة المنتخبة في فترات الإنتقال السابقة، وسيتواصل ويتكرر دوران الحلقة الشريرة، لكن ناتج الدوران هذه المرة، لن يكون نظاما ديكتاتوريا قمعيا فحسب، بل أسوأ من ذلك حد الحرب الأهلية وتفتت السودان.
والمسؤولية سيتحملها بالكامل قادة الفترة الإنتقالية في مختلف مواقعهم، في مجلس السيادة، ومجلس الوزراء، ومجلس الشراكة، والحاضنة السياسية، وستظل اللعنات تطاردهم.
ربما كانت الانتخابات المبكرة مخرجا معقولا وعادلا من الأزمة التي نعيشها، إذا ما كانت المفوضيات القومية المستقلة قد تكونت وأنجزت أعمالها. ليس بالضرورة كل المفوضيات، ولكن على الأقل مفوضية السلام، ومفوضية إصلاح المنظومة العدلية والقانونية، ومفوضية العدالة الإنتقالية، ومفوضية المؤتمر الدستوري وصناعة الدستور، وبالطبع مفوضية الإنتخابات.
أما قبل ذلك فهي دعوة لتجريب المجرب الفاشل، كما إنتهت إليه فترات الإنتقال السابقة، وعمليا تعني نسف الفترة الإنتقالية، والتي جوهرها هو تحالف وتوافق الجميع، بمختلف رؤاهم السياسية والفكرية، على مشروع يعبّد مداخل وطرق تحقيق حلم كسر الحلقة الشريرة، ويضع السودان على منصة تأسيس جديدة، ترسي دعائم بناء دولة وطنية حداثية. وهذا المشروع لا يمكن أن ينجزه حزب أو تحالف أحزاب، بقدر ما هو مهمة الشعب بأسره، وينطلق من فرضية أن الوطن لا يبنى بأيديولوجية هذه الكتلة أو تلك، ولا بمشروع هذا الحزب أو ذاك. ومع ذلك، أقترح أن نعدل في هذه الدعوة، ونتجه فورا إلى صياغة القوانين والتدابير الضرورية لتنظيم إنتخابات مجالس الحكم المحلي بمستوياتها المختلفة. فهذه المجالس، إضافة إلى تعاملها المباشر مع قضايا المواطن المعيشية، يمكن أن تلعب دورا رقابيا، حتى تجاه الحكومة القومية والاجهزة الإنتقالية المختلفة.
ثم أن الإنتخاب إليها يعتمد على معرفة الناخب المباشرة بالمرشح وليس عبر حزبه، وأن الناخبين سيصوتون للمرشح الأقدر على خدمتهم، من وحي التجربة اللصيقة في الحي أو المحلية، غض النظر عن إنتمائه الحزبي. هي بإختصار تمرين أساسي في عملية بناء التحول الديمقراطي من القاعدة إلى أعلى، وتجربة يمكن أن تتولد منها أفكار تساعد في بلورة أي النظم الإنتخابية أفضل لبلادنا، وحتى لا نواصل ممارسة الكسل الذهني، فنهرع سريعا لنسخ ولصق التجارب الانتخابية الناجحة التي ربما كانت ملائمة لبلدان أخرى، كتجربة وستمنستر مثلا، لكنها لا تتلاءم مع واقعنا، وظل الفشل حليفها، ودائما ما تتم مصادرتها ببديل كارثي كما حدث في فترات الإنتقال السابقة.
إن وضع البلاد اليوم لا يحتمل المزايدات والمكايدات بين القوى السياسية، مثلما لا يحتمل إستمرار سياسات التجريب، وهو يصرخ فينا بخيارين لا ثالث لهما: إما الشروع الآن وبهمة وجدية لإستكمال مهام الإنتقال، أو الطوفان. أصحاب الخيار الأول، عليهم أن يتجمعوا ويتناسوا، أو يؤجلوا، خلافاتهم وتناقضاتهم السياسية والفكرية، وليتوافقوا على كيفية إنقاذ الوطن. وكما ذكرنا ونكرر، هي مهمة لا يمكن أن ينجزها فصيل أو تحالف مجموعة من الفصائل، مثلما لا يمكنها أن تقتصر على النخب السياسية وحدها، بقدر ما هي مهمة الشعب بكل فئاته، السياسيون والتكنوقراط والمجتمع المدني والعسكريون والشخصيات الوطنية…الخ، كل له دور وعليه واجب، دون إقصاء ودون تسييد أي إنتماءات ضيقة، حزبية أو جهوية، على حساب الإنتماء للوطن.
المقالات
الشفيع خضر يكتب : السودان ولعنة فترات الانتقال
التعليقات